حقيقتان !!

بواسطة | يناير 16, 2024

بواسطة | يناير 16, 2024

حقيقتان !!

يعكس التاريخ تحولات مستمرة في الأفكار والسياسات، حيث يشهد التطور العلمي والفكري تغيّرًا مستمرًا. يتباين فهم الحقائق ويتشكل الرأي العام حول قضايا مثل السلطة، الديمقراطية، والنزاعات الإقليمية. يسلّط هذا المقال الضوء على بعض التحولات التاريخية والتحديات السياسية الراهنة، من خلال فحص مفاهيم تاريخية وتحليل التطورات السياسية الحديثة.

تحولات التاريخ والسياسة – من الأفكار المطلقة إلى تحديات العصر الحديث

لايقوم التاريخ على أفكار مطلقة، العلم نفسه تتغير فيه النظريات العلمية وتتقدم وتتسع، الذين رأوا الشمس تدور حول الأرض سادت تصوراتهم لقرون طويلة، إلى أن ظهر نيكولاس كوبرنيكس وجاليليو جاليلي في العصور الوسطى، وقالا إن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وعانيا ماعانيا من عسف السلطة، التي كانت ترى للأفكار المطلقة حرمة الأديان.. حتى نيوتن واضع قوانين الجاذبية، جاءت نظرية النسبية لإينشتاين بفهم أوسع واحتوتها.

احتار الفلاسفة والناس في طريقة الحكم، فمنهم من رأى الحكم للحاكم فقط، ومنهم من رآه للصفوة، ومنهم من رآه للعمال؛ والحقيقة الوحيدة هي أن الحكم يتأثر بمنبته وبيئته ويتطور مع الفكر في العالم، والناجح منه هو ما قام على إتاحة الفرصة للآخرين فلا يبقى للحاكم وحده.. ما نسميها بالديمقراطية لها أشكال، ولكن المهم جوهرها، وهو المشاركة بالرأي وعدم الوقوف عند رأي واحد، كل من عسف بالآخرين من أجل رأيه انتهى في التاريخ وصار صفحة مطوية، ويظل الإنسان يبحث عن الأجمل والأفضل في رحلة لا تنتهي.

وبعيدا عن القضايا الكبرى، انظر حولك في الواقع لترى كيف صار للسوشيال ميديا والإعلام دور لم يكن متوقعًا لترويج الأكاذيب باعتبارها حقائق، بالإلحاح عليها كشيء جميل، أو باتهام من لا يرونها كذلك بكثير من التهم الجزافية.

أكبر ظاهرة يدور الاختلاف عليها الآن هي وجود إسرائيل.. كل الحقائق تقول إن اليهود لاقوا عسفا في أوربا على مر التاريخ، وكان الحل هو البحث عن وطن لهم، يرضيهم ويرضي أعداءهم؛ اختلفوا في البداية على المكان ثم استقر الرأي على فلسطين، بدأت الهجرات إليها في القرن التاسع عشر، حتى جاء وعد بلفور في القرن العشرين ليفتح المجال بشكل أوسع، ويؤكد أن زرع هذا الكيان ليس إنقاذا لليهود فقط من عسف الغرب، ولكن لتظل المنطقة محل صراعات وحروب، ومن ثم لا يغادرها التخلف في نواحي الحياة الأخرى، فمع الحرب تتأجل كل مطالب الحياة.

البحث في الصحف القديمة – كمثال بسيط- يرينا كيف كانت السفن، أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية وبينهما، تأتي باليهود الهاربين من أوربا إلى فلسطين ليعيشوا بين أهلها، وتصبح لهم جامعة هي الجامعة العبرية، ويصبح لهم نصيب من الحكم، وتحمل العملات النقدية دلالاتها بالعربية والعبرية.. حصل ذلك كله ولم يغضب الفلسطينيون من هجرة اليهود إليهم، لكن أولئك كانوا يؤسسون لحلمهم الصهيوني الكاذب، فانقلبوا على الفلسطينيين وارتكبوا المذابح بحقهم، وطردوهم من مدنهم وقراهم ولا يزالون. وطال الوقت على بعض الساسة بوجود إسرائيل على هذه الحال، فرأوا في التطبيع حلًّا للخروج من الحروب المتكررة، لكن الحقيقة الوحيدة التي لا تراها إسرائيل، ولا الذين يطبِّعون معها، أن الشعوب العربية لا تمارس التطبيع ولا تعترف به، حتى لو لم تعلن ذلك.

نزاع إسرائيل وتحديات المحكمة الدولية

إسرائيل الآن أمام محكمة العدل الدولية تكذب، وتلصق بفلسطين – ممثَّلة في غزة وحماس- كل الكوارث التي قامت هي بها، وسجلتها الكاميرات والهواتف المحمولة، وصارت تملأ الدنيا؛ وهي تظن أن أفلامها المفبركة أو المصطنعة ستنطلي على المحكمة، معتمدة في ذلك على إرهاب وتخويف الدول الأخرى – مثل أميركا وألمانيا وإنجلترا- للمحكمة في العلن، أو بشكل مبطن في إنكارها الاتهامات لإسرائيل.

لم يكن زرع إسرائيل قضية عابرة ولا حقيقة يمكن تغافلها، وأكد الزمن ذلك، لكن هناك من يتعامون عنه ويعتبرونها دولة مسالمة؛ وهؤلاء إذا بحثت عنهم بعيدا عن رؤية الغرب للمنطقة التى لا يريد لها الراحة، تجد لهم مصالح شخصية أو رؤى سياسية غير ناضجة، قد يكون سببها اليأس من الحروب والأمل في سلام، دون النظر في ما جرى مثلًا بعد سلام مصر مع إسرائيل، والاعتبار بما فعلته إسرائيل بعد ذلك بالفلسطينيين، وبرفضها حتى الآن قيام دولة فلسطينية، وتوسعها في الأرض على حساب الفلسطينيين، الذي يزداد كل يوم.

غياب هذه الحقيقة ليس أمرًا طبيعيًّا، فأنت هنا لست أمام قضية فكرية أو علمية، لكنك أمام واقع تراه بعينيك، وإذا غاب عنك يوما ما فالسوشيال ميديا في جانبها الحقيقي لا تخفي شيئا.. أبسط الحلول هو الاعتراف العالمي بدولة فلسطينية على ما بقي من الأرض بعد اتفاقات مجحفة مثل كامب ديفيد وأوسلو، وترك الزمن يغيّر الأمور بلا حروب، لكن هذا الحل ليس له مكان عند الصهاينة، الذين اعتبروا قضيتهم وعدا من الله، كأن الله لم يخلق غيرهم على هذه الأرض الفلسطينية، التي إذا كانوا قد عاشوا فيها يوما، فمدة عيشتهم لا تساوي واحدًا بالمائة من حياة ومعيشة الفلسطينيين.

رفع الراية الدينية هو أسهل ما يُفعَل ليمشي العامة وراءه، لكن أن يحدث هذا بعد كل ما جرى من تقدم في العلم والفكر، فهو أمر سياسي ساذج راح زمنه.. الإيمان مكانه القلب لا العقل، ونحن أيضا نؤمن أننا خير أمة أُخرجت للناس، فكيف لايدركون أن الصراع هكذا لن ينتهي؟ وكيف يلومون حماس لأنها ترى في الشهادة حياة؟!.

التحديات الاقتصادية والسياسية في مصر

 سأبتعد عن إسرائيل وأنتقل إلى قضية سياسية في مصر.. ولا أدري السبب في أن يجعل المساندون للحكم هذه القضية حقيقة جميلة لا تقبل الجدل، بل وطبيعية من أجل مستقبل أفضل، بينما يدرك أي شخص بسيط أنها أزمة خانقة لابد من البحث عن طريق آخر لتجاوزها!

من ينظر إلى هذه السنوات العشر الماضية يرى – مثلا- كيف ارتفع سعر الدولار من ستة جنيهات عام 2013 إلى ثلاثين جنيها، ما تسبب في ارتفاع أسعار كل شيء؛ وأي شخص عاقل يرى ذلك لابد أن يقول بضرورة تغيير السياسة الاقتصادية في كل تجلياتها، ولا مجال للاقتناع بما تم فيها.. لابد من استئصال كل أسباب لجوئنا للقروض، فنحن لم ندخل حربا مثلا، لكنه الإصرار على تنفيذ مشروعات غير منتجة مثل الكباري وبناء عاصمة جديدة، وعليك أن تصدق أن ما يحدث هو الصحيح، ولا ينبغي أن تفكر حتى في إيقافه مؤقتا.

أكرر أن تاريخ النظم الاقتصادية هو تاريخ التغير، وكل من أقاموه على فكرة مطلقة أضاعوا بلادهم وفكرهم، وهنا لا توجد حتى فكرة مطلقة، بل سياسة خاطئة لا أسهل من تغييرها، لكنها للأسف تستمر!.

مثال واحد فقط من التاريخ يقول إن النهضة المصرية في العصر الحديث قام بها المجتمع الأهلي، فهو الذي أقام المصانع والمدارس والمستشفيات وغيرها قبل 1952، لكن كل شيء بعدها صار في يد الدولة المركزية، التي انتقلت من بناء المدارس والمصانع والمستشفيات في الستينيات إلى بيعها بدءًا من السبعينيات.. بدأت خطة التخلي الجهنمية واستمرت، لم يعد لدينا مصانع منتجة، ويتم الآن عرض مابقي – وهو قليل- لسداد ديون لا يعرف أحد لها مشاريع إنتاجية، ووصل الأمر إلى المباني العريقة المعروضة أيضا للبيع، بل إلى الحديث عن “توريق” بعض ممتلكات الدولة بتحويل أرباحها إلى سندات دولارية، يشتريها من يريد، ويحصل على عائدها من عائدات المشروع.

يتردد الحديث عن قناة السويس كأحد الأهداف للتوريق، وهناك من يكذِّب الحديث، لكن في كل الأحوال لن يختفي تاريخ القناة الذي يحتاج كتابا يحكي قصتها، بدءًا من حفرها إلى توكيل الانتفاع بها لفرنسا ثم إنجلترا إلى استردادها، وستخبرنا القصة عن الضحايا المصريين في كل تلك المراحل.. أحلم أن لا يحاول أحد طيَّ هذا التاريخ، فلا أحد يعرف نتيجة الخسارة في مشروع التوريق هذا.

باختصار، اخترت طريقًا انتهى بك إلى حفرة، فعليك أن تغير الطريق كله لا أن تتعامى عن الحفرة.. إن ما يحدث هو إخفاء المشكلة الحقيقية بأية مبررات وبآمال كاذبة، وهو من ثم حرب مع طواحين الهواء.

1 تعليق

  1. محمد العباسي

    الحكم الناجح هو ما قام على اتاحة الفرصه للآخرين ….. فلا يبقى للحاكم وحده ….. قاعده ذهبية

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...