ذكرى تحرير الكويت.. و يوميات الغزو.. وحيرة جيلي مع “صدام”!

بواسطة | فبراير 27, 2024

بواسطة | فبراير 27, 2024

ذكرى تحرير الكويت.. و يوميات الغزو.. وحيرة جيلي مع “صدام”!

تحليل لأحداث خروج القوات العراقية من الكويت، يكشف عن مراحل تطور المواقف العربية والإعلامية تجاه الحرب وصدام حسين، مع استعراض لأثرها النفسي والاجتماعي على الشعوب.

خروج القوات العراقية من الكويت – مأساة تأملات وانكسارات

أمس الاثنين 26 فبراير، تم مرور 33 عاما على خروج القوات العراقية من الكويت.. كانت مأساة نفسية مروّعة، بدأت مع كارثة الاحتلال وضم بلد عربي مسالم وداعم لقضايا أمته، وانتهت مع إذلال العرب بـ”نحر صدام” صبيحة عيد الأضحى ونزع عروبة العراق، لينطبق على هذا الوطن العظيم بيت الشاعر حسن المرواني، صاحب قصيدة “أنا وليلى”:

نُفيت واستوطن الأغراب في بلدي   ودمـروا كـل أشـيـائي الـحبـيـبـات

المأساة بدأت رسمياً في 2 أغسطس 1990. . في ذلك اليوم، بدأت حلماً انتهى بكارثة، المقدمة كانت وردية عندي وعند أقراني حسب تفكيرنا الساذج وقتها بحكم فترة المراهقة العُمرية والسياسية، لكن محطات الحلم كانت كوابيس مفزعة، أبرزها رجل يتقدم بثبات إلى المشنقة ليترك لأمّة مشوّشة الحكم عليه، بعضها يصب اللعنات كلما ورد اسمه، وبعضها الآخر يضعه في مصاف الشهداء والصديقين .

صباح ذلك اليوم الصيفي القائظ من “آب اللهاب” – وأتذكر جيداً أنه كان الخميس- كنت كالعادة أستمع إلى “بي بي سي”؛ جاء صوت المذيع أكثر جدية: “القوات العراقية تدخل الكويت، وتقيم حكومة برئاسة عقيد في الجيش الكويتي”.

لم أتمهل لسماع التفاصيل، خرجت لأرى رد فعل أهل القرية!. الحديث واحد: “العراق دخل الكويت، وأقام حكومة ثورية”. البعض كان غير مُصدق ومُتوجس من المآلات، البعض الآخر في حالة فرح، خصوصاً من سافروا إلى العراق خلال فترة الثمانينيات وأحبوا “الزعيم”، الذي فتح لهم بلاده بدون تأشيرة، وأتاح لهم حرية العمل والتكسّب.. بينما البعض الثالث ممن يحلمون بـ “زعيم” رأوا أن الأمة ظهر فيها جمال عبدالناصر جديد، إنهم لم يعيشوا عصـر الأول، لكنهم انتشوا بتسجيلات خطاباته، وصدّقوا صرخاته بشأن إلقاء إسرائيل في البحر عبر المرحومين “الظافر” و”القاهر”!!

شعرنا – أبناء جيلي- وقد كنا حينها في ظلال فترة الأحلام الوردية أيام الصبا وبدايات الشباب أن براويز قادة الأمة – كما رسم ناجي العلي-  بقيت خالية من الصور بعد غياب ناصر، وفي داخلنا انتظار من سيملأ هذا الفراغ.. إنه إذن صدام الذي ألهب حماسنا الطفولي، ووصل بنا إلى “أم الأحلام” حينما هدد، قبل نحو 10 أيام من غزو الكويت، بتدمير نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية.

رحنا نتذكر ما يحكيه عنه البسطاء الذين انتشلهم من الفقر والبطالة؛ كثير منهم زعم أنه التقاه شخصياً وصافحه، وأن “المهيب الركن” حمّله السلامَ أمانة للشعب المصري كله !

إذن..

 كنا مؤهلين لتقبُّل أي شيء من الرجل الذي يهدد إسرائيل ويتحدى أميركا، ويدعم الغلابى وينصـر الضعفاء. في خضم هذه الحالة نسينا – بحكم سذاجة الرؤية لدى قطاع عربي عريض وقتها- أنه غزا شعباً مسالماً، ودولة مستقلة ساهمت بأحد أعظم مشـروعات الثقافة العربية (مجلة العربي)، ومن أراضيها انطلقت شرارة منظمة التحرير الفلسطينية.

طوال ذلك اليوم (2 أغسطس) تسمّرنا حول الراديو والتلفزيون، والأنباء تتوالى بسرعة رهيبة: القوات العراقية تسيطر في ساعات على كامل الأراضي الكويتية.. الولايات المتحدة ترفض الغزو وتدرس الموقف.. دول عربية تشجب وأخرى تطالب بالتعامل مع الأمر بحكمة.. العراق يؤكد تسلم حكومة العقيد علاء حسين السلطة في قصر دسمان.

“كل شيء تمام، وصدام قادر على مواجهة الأعداء”.. هكذا تحدث البعض قبل أن نحضر بعد عصـر اليوم نفسه في دار مناسبات العائلة عقد قران أحد أقاربي، وكان الجميع – حتى العريس- يتحدثون بإعجاب عن صدام المغوار.

دارت العجلة سريعاً..

“الأهرام” تصدر صبيحة 3 أغسطس بمانشيت مميز ما زال في الذهن راسخاً: “كارثة عربية مفزعة”.. بعدها بيومين تُعقد قمة عربية طارئة في القاهرة تطالب العراق بالانسحاب الفوري دون قيد أو شرط.. حسني مبارك  يحذر صدام حسين من “الصورة القاتمة” المقبلة.. مجلس الأمن يجتمع، وقبل أن يصدر قراراً تبدأ الولايات المتحدة تحريك قواتها باتجاه الخليج.. صدام – كما ذكر محضـر رسمي لحكومته بعد ذلك- تأكد أن هدف تلك القوات ليس إخراجه من الكويت وإنما تدمير العراق، وأن الحرب واقعة لا محالة! ومن هنا تم الإعلان الخيالي: “الكويت المحافظة العراقية الـ 19″، ليدافع عنها الجندي العراقي باستماتة باعتبارها جزءاً من أرضه !

جيلنا لفظ الإعلام الحكومي الذي أعلنها حرباً شرسة ضد صدام والعراق، لجأنا إلى جريدة “الشعب”، لسان حال حزب العمل، الذي بدأ اشتراكياً  بقيادة “المناضل إبراهيم شكري”، ثم فجأة أصبح إسلامياً بزعامة “المجاهد إبراهيم شكري”!. وجدنا في الصحيفة – التي كانت نسخها تنفد فور صدورها- ما يغزّي شعورنا وعقليتنا بانتهاء أسطورة الأمريكان على أسوار “بغداد قلعة الأسود”.

كلمات وحروف مقالات رئيس التحرير، الكاتب الراحل عادل حسين، أجمعت على قدرة صدام على دحر الأعداء! شخصياً، رسمت وقتها كاريكاتيراً يصوّر السكين الأميركي متأهباً  للانقضاض على خريطة “البوابة الشرقية” للأمة، وسط تأييد وفرحة من أشخاص يمثلون الأنظمة الرسمية العربية؛ أرسلت الكاريكاتير للصحيفة نفسها “الشعب”، فسـرق رسّامها الفكرة وأعادها بريشته ونشـرها موقّعاً باسمه عليها!!

ثم..

“الحرب تندلع في الخليج”، هكذا أعلن مذيع الـ”بي بي سي”- حسام شبلاق على ما أذكر- ليلة 16/ 17 يناير 1991.. الطائرات تدك العراق.. ياسر عرفات يخرج بصوته مساءً يقول نصّاً: “العراق امتص الضـربة الأولى، وقادر على النصر بقيادة الفارس صدام”.. عادل حسين يكتب مانشيت “الشعب” في اليوم التالي: “أيها العرب.. أيها المسلمون.. إخوانكم يبادون فهبوا إلى نجدتهم”.

42 يوماً وفكرنا الضحل لا يشكك في انتصار “الأشاوس”.

فجأة..

 راديو “مونت كارلو” ينقل صوت الزعيم نفسه وهو يطالب “القوات العراقية البطلة بالانسحاب من الكويت”، وسريعاً يرسل مندوبه ليوقّع “وثيقة الاستسلام” في خيمة “صفوان” على الحدود الكويتية.

على هذا الحال استمر الأمر سنوات وسنوات.. فى كل مرة يُبشّـرنا فيها صدام بقمة المجد، نجد أنفسنا في جُب الانكسار.

وصلنا إلى العام 2003..

بعد سقوط “تمثال الزعيم” في ميدان الفردوس ببغداد في 8 أبريل من ذلك العام، كنت من أوائل الصحفيين المصـريين والعرب الذين ذهبوا إلى العراق لتغطية شؤونه وشجونه. هالني ما سمعت ورأيت عن المآسي في عهد صدام! كل السقوط النفسـي الذي سببه لي وللعرب جعلني أصمم على كرهه “إنسانياً”؛ حاولت.. وفشلت!

تعاطفتُ مع صدام، الطفل الصغير ابن السنوات العشـر، الذي كان عمه وزوج أمه يضع قطعة من أسفلت الشوارع في نهاية عصا ليضـربه على رأسه، فيهيم على وجهه في البرية، وفى طريق عودته إلى المنزل في “العوجة” يقابله الصبية الأشقياء فيضـربونه، لم يستطع التحمل، ضُرب في المنزل وخارجه.. عقد العزم وأحضـر سيخاً حديدياً، وانهال به على أحد الصبية في بطنه، يُقال إنه قتله!

خافت عليه أمه، ذهبت به إلى بغداد عند شقيقها خير الله طلفاح، رأى صدام ابن خاله ذي الأعوام الستة يقرأ ويكتب، بينما هو لا يعرف.. أدرك خاله ما يريده الصبي، أدخله الابتدائية- سنة أولى وقد تخطى عامه العاشر، رسم له خريطة العراق بعد أن ضم إليها الكويت، ليضع هذا الخال اللبنة التوسعية الأولى في عقلية ابن أخته، لكنه في الوقت نفسه رسم له  طريق النهاية إلى حبل المشنقة الغليظ!

دارت الأيام دورتها..

 صدام يصبح قائداً، يأتي بابن خاله الذي سبقه في التعليم “عدنان خير الله” ليكون وزير دفاعه، قبل أن يلقى حتفه في سقوط طائرة عسكرية.

اندهشت من إقدام صدام الشاب وهو يشارك بعمر التاسعة عشـرة في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، ثم يهرب إلى سوريا ليلتقي مؤسس “البعث” ميشيل عفلق، فيُعجب هذا المفكر والمُنظـّر الكبير بجرأة ذلك الشاب الصغير، وفي الوقت نفسه ينبهر الشاب بثقافة المفكر ويقرر أن يقرأ ليكون مثله، ويذهب إلى القاهرة ليدرس القانون.

تمنيت أن أرى صدام لأواسيه في الحدث الجلل الذي يهز أعتى الجبال.. مقتل ولديه عدي وقصي وحفيده مصطفى، بعيداً عنه في الموصل.

احترمت اختياره المأساوي برفض العرض السخي من أكثر من حاكم عربي، بترك السلطة والعيش معززاً مكـّرماً هو وعائلته في بلد هذا الحاكم أو ذاك.. رفض لأنه قرر أن يبقى وجعنا الذي لن يطيب بمشهد إعدامه صبيحة عيد الأضحى.

المفارقة..

 أن قريبي – رحمه الله- الذي تزوج يوم غزو الكويت، لم ينجب طوال حياته، وكأنه تعبير عن “العقم” الذي أصاب الأمة منذ ذلك اليوم المشؤوم!!

1 تعليق

  1. Lady Gaga

    لقد عايشت أحداث الغزو العراقي على الكويت ، للحقيقه لم أكن من المؤيدين لهذا الاحتلال ..
    فقد فقدت حق الحياة و العيش الكريم على أرض وطني بسبب الإحتلال و لم يكن لي يد بهذا القرار ، فقد كان هذا قرار والداي ..
    كما لم يكن لنا يد في غزو العراق للكويت ، و لكن ما لحقنا من نبذ و سخط و كراهية كان هو الحدث الجلل بالنسبة لي في مقتبل حياتي .
    لقد فوجئت يومها .. شأن الكثيرين بهذا الخبر ، ولم أعرف حقيقة ما حقيقة الذي يحدث حولي .. و ما الدوافع لكل هذا الغزو ، لكن طالني كما طال الكثير الظلم و الحكم المسبق على موقفي و نبذي .. و ما كان إلا أن حياتي ازدادت صعوبة و تعقيداً.
    لكن ما أعرفه و مازلت متأكدة منه .. أن الطريق للنصر و احراق اسرائيل لن يكون بالمرور على جثث إخواننا من شتى الدول ، و أن صناعة الحرب بين الأمة الواحدة لن تجلب إلا الخراب على أهلها .
    و هو ما نراه جلياً في يومنا هذا ، بسقوط بغداد سقطت أهم أعمدة الشرق الأوسط والأمه العربية و بدأت بعدها لبنات أخرى بالسقوط و التهاوي ايذانا بالنهاية ..التي نراها تتجسد أمام أعيننا في الوقت الحالي .
    أشكرك أستاذ شريف ، لقد استمتعت بقراءة الأحداث من خلال تجربتك .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...