صلاح السعدني يكشف مأساة اليسار العربي!

بواسطة | أبريل 23, 2024

بواسطة | أبريل 23, 2024

صلاح السعدني يكشف مأساة اليسار العربي!

رحم الله الفنان الكبير صلاح السعدني (1943- 2024)، الذي غادر دنيانا الجمعة الماضية تاركاً إرثاً كبيراً من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية؛ وكان قبل كل شيء صاحب رؤية وموقف من أحداث الوطن والعرب والعالم.

لقد بدأ العمل في الستينيات منذ عهد جمال عبد الناصر، واختار الابتعاد بإرادته عن الكاميرات منذ 10 سنوات أو أكثر وهو في قمة عطائه، ليعيش باقي أيامه في هدوء؛ وطوال هذه العقود كان من قلائل أهل الفن الذين لم يُضبَطوا يوماً متلبسين في زفّات التهليل للمسؤولين، مؤكداً أن كونه شقيقاً للأستاذ محمود السعدني، أحد أكبر وأهم الكُتاب المصريين والعرب، أثّر في تكوين شخصيته ومواقفه وثقافته.

من بين  عشرات الأعمال المهمة التي قدمها صلاح السعدني، ومنها “حلم الجنوبي” و”المراكبي” و”ليالي الحلمية” و”أرابيسك” و”الملك هو الملك”، أتذكر فيلماً ربما هو أقل أعماله شهرة رغم قيمته ومضمونه.. الفيلم عنوانه “فوزية البرجوازية”، للكاتب الساخر الراحل أحمد رجب، من إنتاج فترة الثمانينيات، ويُلخّص فيه حالة اليسار في مصر والعالم العربي.

يحكي الفيلم عن شخصية “عبد الواحد عاشور”، المثقف اليساري الذي يسكن مع زوجته في إحدى الحارات الشعبية، وقد جسد شخصية عبد الواحد باقتدار الأستاذ صلاح رحمه الله، فيما قامت إسعاد يونس بدور الزوجة. يعيش الزوجان في عالم من الأفكار الحالمة والمصطلحات المُقعّرة، التي لا يفهمها أهل الحارة؛ وذات يوم دخلت زوجته في مُلاسنة تحولت إلى شجار بالألفاظ مع “فوزية”، زوجة صاحب المنزل، الأسطى “بدّار” الحلاّق، تلقت خلاله الزوجة المثقفة سيلاً من عبارات اللوم والتقريع من فوزية، فلم تستطع الرد عليها بالأسلوب نفسه، واكتفت بكلمة “إنتي ست برجوازية”.

لم تفهم فوزية معنى الكلمة، فاستدعت صديقاتها من سيدات الحارة في اجتماع تشاوري عاجل، علّ واحدة منهن تفسر لها معنى “برجوازية”؛ وبعد أن حصلن على حق الضيافة راحت كل واحدة تعلن مساندتها لـ”فوزية”: “بقى إنتي يا ست يا كاملة يا عاقلة ياللي تتحطي على الجرح يبرد يتقالك يا برجوازية”.. “قطع لسانها اللي  تقول عليكي كده.. هيَّ اللي برجوازية وستين برجوازية كمان”. وأخذ مجلس الحرب النسائي هذا يبحث عن معنى الكلمة، وكلهن أجمعن على أنها شتيمة “قبيحة”، لا يصح أن تقال لامرأة فاضلة مثل “فوزية”.

بكت الأخيرة حزناً على كرامتها المهدرة، وراحت تشكو لزوجها الأسطى بدّار “شتيمة” زوجة عبد الواحد الساكن الجديد. ذهب الأسطى إلى إبراهيم، طالب الجامعة الانتهازي الذي يفهم كل شيء باعتباره – وفق قناعات بدّار- “مُتعلم ومتنور”؛ ولأن الأخير كان على خلاف مع عبد الواحد من النوع الذي ينشب بين المثقفين، رغم أنهما ينتميان إلى تيار فكري واحد، فقد “شعلل” الموقف، وأكد أن كلمة “برجوازية” هي مسبّة كبيرة وإهانة فجة، ما دامت قائلتها هي زوجة “عبد الواحد الماركسي”، بل إنه من حرضها !

لم يكتف إبراهيم بهذا بل راح يبتز أهل الحارة، واستغل أن الشيء الوحيد الذي يفهمونه هو كرة القدم، وأكد لهم أن الاتحاد السوفييتى “السابق” يتعامل مع اليساريين لزيادة شعبية النادي الأهلي، الذي يرتدي اللون الأحمر وهو لون علم الروس، بينما تردّ الولايات المتحدة على السوفييت بدعم نادي الزمالك الذي يرتدي اللون الأبيض، وهو نفسه لون رمز أمريكا “البيت الأبيض”؛ ومن ثم راح يقبض من الأهلاوية، وهو عين ما كان يفعله مع الزملكاوية، بدعواه لكل طرف أنه يدعم فصيلهم في الحرب الكروية المستعرة بينهما، والتي دخلت على الخط فيها موسكو وواشنطن، حسبما أقنع أهل الحارة!

 هكذا استمر إبراهيم – اليساري المتطرف- في التكسب من الجماهير، ثم طمع في الزواج من زميلته الثرية حتى انتهى مصيره إلى السجن، بينما ظل عبد الواحد وزوجته – اليساريان المعتدلان- يعيشان في عالمهما الخيالي، وحيرتهما في تسمية مولودهما المنتظر بين “ماركس” و”لينين”، ومصطلحاتهما غير المفهومة التي يظنها الناس شتيمة!

أحداث هذا الفيلم، خير مُعبر عن حال اليسار في مصر وعموم عالمنا العربي.. إن هذا التيار أشبه بمن زرع نفسه في أرض ليست صالحة له، فلا نبتاً أخرج ولا زرعاً حصد.

طوال عصر السادات وأول عقد من عهد مبارك، كان اليسار هو التيار الرئيسي الفاعل في الشارع المصري، كان حاداً في معارضته ويمثل الأمل للناس في العدالة الاجتماعية؛ ومع بوادر انهيار المنظومة الاشتراكية في العالم أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، بدأ نجم اليسار يأفل في عموم العالم العربي.

لا خلاف في أن نظام الرئيس حسني مبارك (رحمه الله) كان يحارب الأحزاب الجادة – ومن بينها حزب “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي”، لسان حال اليسار المصري- ويحصرها داخل مقارّها فقط، ويمنعها من الالتحام بالجماهير؛ لكن الثابت أيضاً أن عدداً لا يُستهان به من قيادات هذا الحزب ارتضوا بدءاً من منتصف عهد مبارك أن يكونوا “مداساً” في رجل الحكومة، طمعاً في كرسي بـ”التعيين” في المجالس النيابية، بعدما استعصى عليهم في الانتخابات، بل إنهم خالفوا كل أدبياتهم، وارتضوا أن تقوم السلطة بالتزوير لصالحهم في انتخابات العام 1990، وإنجاح بعضهم، حرصاً على وجود ديكور معارض داخل مجلس الشعب، بعد مقاطعة الأحزاب الكبرى – وعلى رأسها “الوفد”- لتلك الانتخابات.

 كما دخل عدد من منظّريهم في “حظيرة الثقافة الرسمية”، كما كان يسميها فاروق حسني، أكثر من قضى سنوات على كرسي وزير الثقافة منذ عهد الفراعنة.. ربما  أرادوا أن يستريحوا في ظلال أي منصب حكومي، عبر قطاعات وهيئات وإصدارات الوزارة التي لا حصر لها، بعد سنوات طويلة من الملاحقات والاعتقالات.

أحد هؤلاء الراحل صلاح عيسى، القامة الفكرية البارزة في صفوف اليساريين المصريين، الرجل الذي تربينا على فكره الليبرالي، الذي يؤمن إلى آخر مدى بالرأي الآخر وحرية الاختيار.. منذ فترة الطفولة والصبا أدمنت كتاباته، وهي رفيعة وغزيرة، وفيها جزء كبير يعيد إحياء وتقديم تاريخ مصر الحقيقي، بعيداً عن تدخلات الأنظمة المختلفة.

حينما تولى صلاح عيسى إدارة جريدة “الأهالي” – لسان حال حزب التجمع- حوّلها إلى جريدة شعبية بامتياز؛ شعبية بمعنى قدرتها على الوصول إلى شرائح مختلفة، بعيداً عن لغة اليسار الصعبة على عموم الجماهير، جعل منها إحدى أهم وأشهر الصحف المصرية في الثمانينيات، وأكثرها تأثيراً وقيمة.

كما يُحسب لصلاح عيسى – تحديداً- أنه أنصف حتى خصوم اليسار فكرياً.. لا أنسى له مقالاً بصحيفة “مصر الفتاة”، التي كان يرأس تحريرها مصطفى بكري، حينما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر بانتخابات 1991؛ وقتها شن اليساريون هجمة شرسة على الجبهة، وأكدوا أنها ستنقلب على الديمقراطية بعد أن تُحكم قبضتها على السلطة، ويبدو وكأن جنرالات الجزائر أخذوا بنصيحة الحملة، فانقلبوا هم على نتائج الانتخابات وألغوها تماماً، ليُدخلوا بلدهم في حمام دم “العشرية السوداء”.

صلاح عيسى كتب أيامها عكس تيار زملائه اليساريين، وأكد ضرورة احترام صندوق الانتخابات، وأن وصول جبهة الإنقاذ إلى حكم الجزائر يُعدّ فرصة ذهبية لباقي التيارات الإسلامية في المنطقة، كي تبتعد عن العنف والعمل السري طالما أن الأبواب الشرعية مفتوحة أمامها، فضلاً عن أن انغماسها في شؤون الحكم سيزيد من خبراتها، ويجعلها تُعدّل من آرائها السابقة لتتماشى مع واقع الحياة اليومية، ومشكلاتها المتشعبة التي تحتاج حلولاً عملية وواقعية.

آراؤه كانت تجعله في مكانة متفردة عند جيل كامل  تفتَّح وعيه على كتاباته، لكن لا أعلم ما الذي جرى بعد ذلك في مياه نهره المتدفق، إذ طاله رذاذ من “العطسات الازدواجية” لأهل اليسار، فأصابته بالعدوى.

لقد التقيته (رحمه الله) عقب أول انتخابات نيابية جرت في مصر بعد يناير 2011، وسألني عن من أعطيته صوتي، فقلت إنني اخترت قائمة التحالف، التي كانت خليطاً من عدة أحزاب بخلفيات فكرية مختلفة، بين إسلامية ويسارية وناصرية؛ وأوضحت له أنني اخترت هذه القائمة لأن أحد أعضائها هو المناضل العمالي اليساري الكبير فلان الفلاني، فقال عن هذا المناضل إنه “نصاب”!! لم أفهم منه ما إذا كان يتهم الرجلَ بـ”النصب” في عموم مواقفه، أم إنه يقصد بذلك معنى “الانتهازي”، لترشحه ضمن تحالف يختلف عنه مرجعياً وفكرياً، طمعاً في أصوات قاعدة جماهيرية لم يكن يستطيع الحصول على تأييدها لو ترشح منفرداً.

عموماً، رأي الكاتب الكبير الراحل في زميله جعل تفكيري مشوّشاً تجاه كل ما تعلمته منه، ومن جريدة “الأهالي” أيام الصبا وتشكيل التكوين.. إذا كان هذا المناضل العمالي “نصّاباً” أو “انتهازياً”، فلماذا لم تفصلوه من حزب “التجمع”؟ ولماذا كنتم تفردون الصفحات عن تاريخه الوطني، وبيان أنه وهب نفسه وعمره لخدمة العُمّال المهمّشين والطبقة الشعبية الكادحة؟ ومن هنا أحببته.

هكذا في لحظة، أعاد صلاح عيسى إلى ذاكرتي الخلافات والاتهامات نفسها بين “إبراهيم اليساري المتطرف” و”عبد الواحد اليساري المعتدل” في فيلم صلاح السعدني (رحمه الله).

كلمة أخيرة:

يُقال إن نائباً يسارياً تربى على أفكار العدالة والاشتراكية، كان يتحدث تحت قبة البرلمان، ويهاجم بصوت جهوري “الرأسماليين الأوغاد الذين كوّنوا ثروات من مصّ دماء الغلابة، وكل واحد منهم يرافق امرأة ويصرف عليها فلوسه”؛ فسأله بعض زملائه النواب: “وأنت.. مش مرافق امرأة؟!”.. أجابهم: “نعم.. لكن هيَّ اللي بتصرف عليَّ”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...