عن أفول الغرب ونهاياته

بواسطة | فبراير 24, 2024

بواسطة | فبراير 24, 2024

عن أفول الغرب ونهاياته

يتناول المقال التحليل الأكاديمي لأسباب ومؤشرات سقوط الغرب، بتركيز على العجز الصناعي، تلاشي البروتستانتية، وتفضيل روسيا. حيث يسلط الضوء على التحديات الأخلاقية والروحية مثل الأزمة البيئية وتنامي الشذوذ والعنصرية. فتظهر القضايا المعقدة والمتشابكة التي تهدد الغرب في عصر التغيرات العالمية.

سقوط الغرب – تحليل أكاديمي لأسباب الضعف الأخلاقي والاقتصادي والديني

لم يعد الحديث اليوم عن فكرة موت الغرب أو هزيمته أو سقوطه مجرد فرقعة إعلامية وأحاديث للمنشتات الصحفية، كدعاية وبروبوجندا لإعلام خصومه أيضا، فقد غدت هذه الظاهرة صوتا أكاديميا مدويا، من فرنسا إلى أمريكا مرورا ببقية الأكاديميات الغربية المختلفة، التي باتت تناقش وتأخذ فكرة أفول الغرب وسقوطه على محمل الجد هذه المرة.

ففي هذا السياق، وخلال السنوات العشر الأخيرة صدر العديد من الدراسات والكتب والأبحاث التي تأخذ فكرة سقوط الغرب مأخذا جديّا، ومؤخرا ازدادت وتيرة هذه الأصوات وهذه الكتابات حضورا في ظل تحولات المشهد الدولي الكبيرة التي يعشها عالم اليوم، على وقع التطورات الأخيرة من حرب أوكرانيا وحرب غزة (أو ما أُطلق عليها طوفان الأقصى)، وقبلها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وطريقته بعد عشرين عاما من الاحتلال.

سقوط الغرب أو هزيمته اليوم، ليس بالضرورة سقوطه أو هزيمته عسكريا، فلا يزال الغرب في أوج قوته العسكرية.. لا شك في هذا، لكن هذه القوة العسكرية اليوم ليست سوى مظهر من مظاهر مجد الماضي، وقوة مفرغة أخلاقيا وبلا أي معنى، سوى القوة من أجل القوة، وهذا ما يجعلها عاجزة مشلولة بلا أي شرعية أخلاقية، في عالم أكثر انفتاحا وتقاربا، وخاصة بعد أن ظل الغرب يرفع شعار حماية حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها.

إن مأزق الغرب الحقيقي اليوم، هو في حالة السقوط الأخلاقي الذي يتكشف كل يوم عن غرب يعيش مرحلة انحدار كبير نحو الأسفل، هذا الانكشاف الذي أظهر الغرب على حقيقته الكولونيالية، التي ظل طويلا يغلّفها بشعارات الحداثة والليبرالية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وبكل ما له علاقة بأفكار الحداثة وما بعدها وما قبلها، حتى جاءت حرب غزة لتكشف زيف كل هذه الشعارات، باعتبار حرب غزة لم يستطع الغرب أن يتستر في ظلها؛ فقد ضربت في صميم العقل اللاواعي الغربي، وأظهرت مكنوناته التي تنمُّ عن تضخم لا واعٍ بمركزية الإنسان الغربي وثقافته وفلسفته، التي تتناقض مع أبسط شعاراته التي يرفعها.

هذا التناقض الغربي، وما نتج عنه من فشل وانكشاف، غدا اليوم واضحاً للجميع، وبدأت أصوات غربية ترتفع محذرة منه ومن مآلاته الكارثية على الغرب وعلى الإنسانية جمعاء. ولم يكن المفكر الفرنسي إيمانويل تود بأول من تناول هذه المسألة في كتاب مستقل تحت عنوان “نشهد السقوط النهائي للغرب”، ولكن لكتابه أهمية تأتي هذه المرة من كون المؤلف صاحب كتاب آخر أحدث ضجة كبرى عام ١٩٧٦ وفي ما بعده، وكان حول نبوءة حملها العنوان “السقوط النهائي.. مقال في تحليل تفكك الفضاء السوفيتي”، وقد تحققت النبوءة بتفكك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية كلها، بعد ذلك بما يقارب عقدا من الزمن.

كتابه الجديد عن سقوط الغرب تأتي أهميته هو الآخر من أن إيمانويل تود عالم اجتماع وأنثروبولوجيا له وزنه وحضوره الأكاديمي داخل بنية الأكاديمية الغربية، إضافة إلى نبوءاته السابقة بخصوص الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي عموماً. عدا عن ذلك، لم يكن تود الأول ولن يكون الأخير، فقد سبقه عدد من الكتاب والباحثين والمفكرين الغربيين الذين كتبوا في هذا السياق نفسه.

سبقه المفكر الفرنسي لوسيان بويا، الذي أصدر في العام ٢٠١٨ كتابا بعنوان “نهاية الغرب، نحو عالم الغد”، وهو الكتاب الذي يدور حول أزمة الغرب في ما يتعلق بالهجرة والاندماج والاحتباس الحراري وصعود الصين، وغيرها من المشكلات، لكن الكتاب في المجمل يُعدّ مؤشرا ضمن مؤشرات مركزية فكرة أفول الغرب، التي باتت تسيطر على الفضاء الفكري والفلسفي الغربي اليوم.

وقبل لوسيان بويا وإيمانويل تود، كتب الصحفي والكاتب الفرنسي هارفيه كيمف كتابا بالعنوان نفسه، وهو سقوط الغرب، متطرقا لعديد أزمات وإشكاليات غربية، وفي مقدمتها الأزمة البيئية والاحتباس الحراري، عدا عن الأزمة الاقتصادية الكامنة في تفاوت الدخل بين الدول، وأزمة البطالة وشح الموارد، وإن كان هارفيه يتفاءل بغد أفضل باعتبار الغرب أكثر عدلا واعتدالا من غيره.. وفي العموم، كل هذه المشكلات هي جزء قليل جدا مما تطرق إليه تود في كتابه الأخير.

وقبلهم جميعا، كان كتاب “موت الغرب” للمفكر والسياسي الأمريكي باتريك بوكانان، وهو صيحة النذير الأخطر غربيا، ونبعت أهميته من أنه أتى ردّا على كتابين خطيرين في سياق عكسي لظاهرة التنبؤ بأفول الغرب وسقوطه وهزيمته، وهما “صدام الحضارات” لصمويل هنتجتون، و”نهاية التاريخ” لفوكوياما، وقد تحدثا عن انتصار الغرب الرأسمالي وفلسفته الليبرالية.

فقد حذر بوكانان في كتابه باكرا بأن الحضارة الغربية مهددة برعب كبير، يزحف نحو أفرادها ومجتمعاتها وأوطانها بكل قسوة وضراوة، وليس بوسع أمم الغرب فعل أي شيء لوقف هذا الاحتضار الأخير للحضارة الغربية، التي أصبحت تواجه الانقراض والفناء لصالح أمم أخرى؛ فالقرن الأمريكي الثاني يبشر بحالة من الكآبة والخوف على المصير، وضياع الهوية، وتحول المواطن الغربي مع مرور الوقت إلى ما هو أشبه بأقلية هشة في مجتمعه الذي شهد موطئ قدم أجداده ومعاركهم وبطولاتهم.

وبالعودة لإيمانويل تود وكتابه الذي أحدث ضجيجاً كبيراً خلال النصف الثاني من العام الماضي، ولايزال، فقد ركز تود في كتابه على ثلاثة مؤشرات رئيسية في ما يتعلق بهزيمة الغرب ومؤشرات تفككه وتراجعه، وكلها قضايا تتعلق بالمشكل الأوروبي الغربي اليوم، ويأتي في عمقها وجوهرها المشكل الديني الأخلاقي، وإن لم يُرِد تود أن يبدأ به كمأزق جوهري مباشرة لاعتبارات ذاتية، ربما لإبعاد الظن بوجود نزعة دينية وإيمانية لا يدعيها هو، إذ يقول إن رأيه هذا كمفكر وباحث أنثروبولوجي لا علاقة له بأي شيء أخر.

فأولى المشكلات التي تطرق لها تود في ما يتعلق بعوامل سقوط الغرب، هي ما يسميه في كتابه بالعجز الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية، مع انكشاف الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، حيث يقول إنه قام بتنفيس فقاعة هذا الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بحذف الأقسام التضخمية منه، وبيّن الأسباب الجذرية للانحدار الصناعي وعدم كفاية التدريب الهندسي، وبشكل أكثر عمومية، انحدار المستوى التعليمي منذ عام 1965 في الولايات المتحدة، وربما في الغرب عموما.

المأزق الثاني أو السبب الثاني في سقوط الغرب – كما يرى تود- هو اختفاء البروتستانتية الأميركية.. وفي الأساس، يُعدّ كتاب سقوط الغرب بمثابة تكملة لكتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” لماكس فيبر، الذي قال في عشية حرب عام 1914 إنه كان يعتقد بحق أن صعود الغرب كان في جوهره صعوداً للعالم البروتستانتي (إنجلترا، والولايات المتحدة، وألمانيا المتشكلة من توحد بروسيا والدول الإسكندنافية).

فهذا المأزق الديني الأخلاقي، يرى تود أن الأزمة الأخلاقية الغربية تكمن فيه، حيث حلت الليبرالية الرأسمالية الجشعة محل الأخلاق البروتستانتية، التي حررت أوروبا من قيود احتكارية النص الديني والثقافي، وأطلقت للغربيين المجال للإبداع والنهوض من كبوتهم؛ إلا أن خطورة تراجع وتلاشي البروتستانتية تكمن في هيمنة ما يُسمى بثقافة ما بعد الحداثة بكل تفاهتها وعدميتها، من الشذوذ والعنصرية والشعوبية، التي باتت تتهدد هذه المجتمعات اليوم وتُضعف من تماسكها الروحي والأخلاقي.

العامل الثالث، والذي يراه تود يقف وراء تشعبات الهزيمة الغربية، كتداعيات الحرب الأوكرانية، هو تفضيل بقية العالم لروسيا؛ وفي ذلك يقول: لقد اكتشفنا حلفاء اقتصاديين سرّيّين في كل مكان، فالقوة الناعمة المحافظة الجديدة لروسيا (المناهضة لمجتمع المثليين)، تعمل على قدم وساق؛ حيث أصبح من الواضح أن روسيا كانت قادرة على تحمُّل الصدمة الاقتصادية التي حشرها فيها المجتمع الغربي بفعل الحرب الأوكرانية، لكن يبدو أن روسيا خرجت من هذا المأزق اليوم أكثر قوة.

فهذه العوامل الثلاث هي عناصر المشكلة الرئيسية التي تطرق لها تود، والتي باتت تمثل اليوم مؤشرا خطيرا بحسبه، وتقف وراء هزيمة الغرب، وبدأت تعصف به وبات مسكونا بها. ولا يعني ذلك أن ما ذكره تود في هذا السياق يشكل كل العوامل التي تمثل اليوم تحديا كبيرا أمام الغرب، فثمة أسباب أخرى تقف أيضا كمؤشر حقيقي لتراجع الغرب وشيخوخته الفكرية والروحية والاقتصادية أيضا.

ثمة مآزق غربية كثيرة، ليس ما ذكره تود سوى أبرزها من وجهة نظر عالم أنثروبولوجيا لا عالم أخلاق، كما قال هو. وبالتالي، فأعتقد أن المآزق غير محصورة بالجانب الديني والروحي أو المادي، بل إن تزييف العلمانية الغربية لنفسها يمثل مأزقاً، فهي تمرُ اليوم بأزمة اضطراب النموذج المثالي الذي كانت تهدف لتقديمه، وهو ما يسميه جون بوبيرو بالعلمانية المزيفة، وهي علمانية جديدة أخذت تبرز وتتمدد في مجتمعات الغرب، وترفع لواءها التيارات اليمينية المتطرفة؛ وهي علمانية مزيفة نقلت المبدأ العلماني من المجال العام، أي المجتمع، ما جعلها تؤول إلى نوع من الاستبداد تجاه الأفراد والجماعات، حيث تتدخل لمنعهم من التعبير عن ذواتهم واعتقاداتهم وشعاراتهم، وهذا باعتقادي لا يقلُّ عن غيره خطراً على النموذج الغربي وحضارته.

وختاماً، لا يعني كل هذا أننا أمام لحظة سقوط وهزيمة وانهيار وأفول الغرب بالمعنى الفيزيائي الزمني لحظياً، فلا شك أن الدول والحضارات لا يأتي سقوطها لحظياً، وإنما ثمة دالة زمنية تأخذ مداها، حتى تصل إلى ذروتها صعوداً، فتعود نزولاً حتى ترتطم بالقيم الصفرية وما بعدها، وهذا ما نقصده بالانهيار أو السقوط والهزيمة للغرب.. هو أن النموذج الغربي فشل في تقديم تجربة ونموذج ملهم للبشرية اليوم، وأن العالم كله يبحث عن نموذج أكثر عدلا وكرامة وصدقا، لم يجده في النموذج الغربي الإمبريالي وحضارته وفلسفته.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...