غـزة.. مدرسة في العـزة

بواسطة | نوفمبر 23, 2023

بواسطة | نوفمبر 23, 2023

غـزة.. مدرسة في العـزة

جيء بالهرمزان أسيرًا عند أمير المؤمنين عمر الفاروق – رضي الله عنه وأرضاه- وقد كان نائما. فحدث أن صار لغط وارتفعت الأصوات بالمسجد حوله، حتى قام عمر من نومه، ثم نظر إليه فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم؛ فتأمله وتأمل ما عليه، وكان يلبس ديباجًا وذهبًا مكللًا بالياقوت واللآلئ، فقال: الحمد لله الذي أذل هذا وأشياعه.. يا معشر المسلمين، تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنّكم الدنيا فإنها غدارة.
ثم توجه للهرمزان قائلًا: كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، كنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلّى بيننا وبينكم فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا؛ فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا. ثم أتبع عمر ذلك بقولته المشهورة: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”.
إنها الحقيقة، وقد أثبتتها الأيام بالتجارب والوقائع، فما من مرة ابتعد المسلمون عن دينهم واشتغلوا بالعاجلة أكثر من الآخرة، إلا ضرب الله عليهم الذلة، وأصابهم من البلاء والوباء الشيء الكثير. والحديث الصحيح واضح لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها؛ فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعـن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن؛ فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.
 من مشاهد العـزة
ربما يذكر كثيرون منا الحوار الذي دار بين الصحابي ربعي بن عامر، وقائد جيوش الفرس في القادسية رستم، الذي سأل ربعي عن سبب قدومهم إلى بلاده، فشرح له الأسباب حتى طلب رستم مهلة ليتفاكر مع قادته، فأمهله ربعي يومين، لكن رستم طلب أكثر ليخاطب رؤساءه في المدائن؛ فقال له ربعي: إن رسول الله قد سنَّ لنا ألا نمكّن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فإني أعطيك ثلاثة أيام بعدها؛ اختر الإسلام ونرجع عنك أو الجزية؛ وإن كنت لنصرنا محتاجًا نصرناك، وإن كنت عن نصرنا غنيًا رجعنا عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع، وأنا كفيل لك عن قومي ألا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا.
قال له رستم: أسيدهم أنت؟ قال: بل رجل من الجيش، لكن أدنانا يجير على أعلانا – يعني إذا أحدنا أعطى وعداً فلا بد وأن ينفذه أعلانا- ثم عاد رستم يكلم قادته مستغربًا من منطق ربعي وقوته وثقته بنفسه، وهو محارب في جيش المسلمين وليس قائدًا فيه.. يتحدث رستم إلى قادته آملًا أن يقتنعوا بالصلح وتجنب الحرب، لكنهم رفضوا وعاندوا، فكانت القادسية الخالدة، ثم تبعها بعد حين من الدهر قليل، زوال دولة كسرى.
من مشاهد الذلة 
بعد مشهد ربعي مع رستم، حيث عزة المسلم وهيبته حين يلتزم بدينه، نجد مشهدًا معاكسًا وغاية في الذل والهوان! مشهد الإذلال الذي عاشه الخليفة العباسي المستعصم بالله، وهو من صنع ذلك بيده، بعد أن أضاع الأمانة وترك أمر الدولة في يد خائن من غير الملة، ابن العلقمي ومن معه، والذي اتفق مع المغولي المتوحش هولاكو لتصفية حاضرة من حواضر عزة الإسلام المتمثلة في الخلافة العباسية ببغداد، حيث أذعن الخليفة لشروط هولاكو خائفًا مرتعبًا ذليلًا، بعد أن أقنعه ابن العلقمي بالصلح وتسليم المدينة من أجل صالح البلاد والعباد، كما ينادي بذلك صهاينة العرب اليوم، ويطالبون حماس بتسليم أسلحتهم وطلب الصلح من الصهاينة! وهكذا سلّم الخليفة رقبته ورقاب حاشيته وقادته وعلماء الدولة، بل الدولة كلها، لمتوحش لئيم مثل هولاكو، الذي لا يختلف عنه زعماء الصهاينة اليوم، فتسبب في هلاك حرث المسلمين ونسلهم، وتسقط الخلافة لأول مرة بعد قرون عدة.
العـرب إذ يعـودون للجاهلية
واقعنا اليوم، ومنذ أن انطلقت دعوات القومية من هنا وهناك، والاعتزاز بها بعيدًا عن الدين، يشير كما لو أننا قبل الإسلام، وهو ما نجح فيه الاستعمار (أو الاستخراب) منذ أكثر من قرن من الزمان. عدنا قبائل متفرقة متناحرة، لا يجمعنا دين ولا تهمنا قضايا الأمة، وأوضح شاهد ودليل على الوضع غير السار هذا، ما يحدث لقضية الأقصى كأبرز الأمثلة على ما نقول، والتي بدأت وهي في قلب المسلمين جميعًا منذ استيلاء الصهاينة على المسجد، حتى إذا ما تحمس العرب ورفعوا شعارات القومية وعروبة الأقصى، وجدت المسلمين من غير العرب، قد رفعوا أيديهم عنها تدريجيًّا.
من هنا، ووفق ذلك المفهوم والشعار، لا تجد اليوم تلك الحماسة أو الغيرة المطلوبة تجاه الأقصى من الباكستاني أو الماليزي أو التركي أو الأفريقي أو غيرهم من المسلمين غير العرب. وهكذا، مع الأيام وتعميق فكرة فصل القضية عن الدين، ضاقت الدائرة عليها حتى وصل الأمر إلى اعتبار الأقصى قضية فلسطينية بحتة، لتجد كثيرين من العرب وقد انسحبوا بعيدًا عن الأقصى، لينتشر تبعًا لذلك مصطلح “القضية الفلسطينية” في وسائل الإعلام، ويقصد بها احتلال فلسطين ومشاريع تهويد الأقصى، وبالتالي على الفلسطينيين أنفسهم الدفاع عن القضية، لتأتي تبعًا لذلك المتردية والنطيحة من الداخل الفلسطيني المصنوعة أمريكيًّا وصهيونيًّا، لترفع شعارات الدفاع عن الأقصى، وهم أول من باعوا القضية وتعاونوا أمنيًّا مع المحتل الصهيوني على تصفية ما تبقى من قضية، وتصفية من بقي للدفاع عنها.
وهكذا ضاقت الدائرة، لتجد اليوم أن القائم الحقيقي الباقي لحماية الأقصى والإبقاء على جذوة الجهاد والدفاع عنها متقدة، هي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل مقاومة أخرى ثانوية، ذات توجه إسلامي. ومن هنا تجد اليوم، بعد أن انكشف الكثير من المستور وخاصة في عدوان الصهاينة الجاري على غزة منذ شهر من الآن، أنْ تجمَّع الغرب المنافق مع الصهيونية النازية وعرب مطبعين وآخرين مخذّلين في معسكر كافر لئيم واحد، ضد معسكر الإيمان وحفظة القرآن في غزة.
أمة لم تظهر لتموت 
أمة الإسلام، وحتى لا يضيع حبل الموضوع منا، ما ظهرت لتموت، بل لتبقى إلى يوم الدين.. قد تضعف وتنتكس مرات ومرات، لكنها تعود ولا تموت؛ إذ مع الوباء المغولي الذي سيطر على عالم المسلمين حينًا، كانت في وقت انتشار ذلك الوباء والبلاء، نبتة تزهر وتنمو وتمتد جذورها إلى الأعماق، ويقوى جذعها وتتماسك أغصانها شيئًا فشيئا، هي تلك القبيلة البدوية من أتراك الأوغوز بقيادة سليمان شاه، ومن بعده ابنه الغازي أرطغرل، حتى أقامت خلافة إسلامية ودولة مرهوبة الجانب تحكم نصف العالم تقريبًا، بل وينال أحد خلفائها، وهو محمد الفاتح، شرف فتح القسطنطينية وتحقيق البشارة النبوية، في تأكيد جديد لحقيقة لا تتغير، هي أن نيل العزة والمهابة إنما بالدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره، أذلنا الله كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه.
غزة العـزة
اليوم تعيش الأمة في مشهد مماثل لما حدث أثناء انتشار وباء المغول والتفرقة التي كان عليها المسلمون، مشهد أثار إعجاب وتعاطف وتأييد جُل العالم، في سابقة تاريخية، مشهد عدوان صهيوني نازي على ثلة مؤمنة صابرة محتسبة في غزة العزة لأكثر من شهر ونصف، وانكشاف نفاق الغرب والشرق، وظهور خفايا دولة الاحتلال، وخفايا ما حولها من دول ومؤسسات وأفراد.
غزة اليوم هي ومضة من ومضات تاريخية، ظهرت وما زالت تظهر هنا وهناك في العالم الإسلامي، تُعلِّم الأمة الصامتة أو المقيدة، معنى الاعتزاز بالدين وعدم الخشية من كيانات وماديات، طالما القلوب معلقة بيد القوي العزيز. وقد ظهرت نتائج ذلك التعلق القلبي بالله في ميدان العزة بغزة، بصورة أثارت انتباه وإعجاب العالم غير المسلم قبل المسلم، حتى رضخ العدو بعد معارك حاسمة مستمرة، لهدنة إنسانية وفق شروط المقاومين الكرام، لتتأكد حقيقة تاريخية متكررة بأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وأن هذا العدو لا يفهم لغةً غيرها في التعامل.
الشاهد من الحديث أن مشاهد غزة المتنوعة، وصمود كتائب القسام ومن معهم، إنما هي بذرة طيبة لشجرة العزة والعلو، التي لا شك أنها ستظهر شيئًا فشيئا، وتستوي على سوقها، وسيعجب بها كثيرون، فتكون بإذن الله، إشارة بدء نهضة جديدة، تُنهي وباء الصهيونية الظالمة مع الرأسمالية المتوحشة، وبقية قوى الشر والطغيان المتناثرة هنا وهناك على شكل دول ومؤسسات وهيئات، والتي ما زادت العالمين غير تخسير.. {ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا}.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...