في ليلة العيد: عم عبده.. ترزي جلابيب وقوانين!

بواسطة | أبريل 9, 2024

بواسطة | أبريل 9, 2024

في ليلة العيد: عم عبده.. ترزي جلابيب وقوانين!

غداً الأربعاء أول أيام عيد الفطر المبارك.. لا أستطيع القول كل عيد ونحن بخير، كيف نكون بخير ونحن – كأمة تسد عين الشمس عدداً- نواصل الفُرجة على مسلسل إبادة أهالي غزة للشهر السابع دون فعل؟! كيف نكون بخير وقد اقتربنا من أن نبتعد عن طور الإنسانية، باعتيادنا على مشاهد قتل الأطفال دون أن ننطق بكلمة، ونواصل الحياة بشكل اعتيادي؟!

على كل حال..

أعادتني ذكرى ليلة العيد إلى عقود مضت، حيث فترة الطفولة في قريتنا، وعم “عبده صقر” الذي عرفت قيمته وأهميته ليس عندي فقط، ولكن عند أنظمة أمتنا، التي تدعم جهراً أو صمتاً مذابح إسرائيل بحق الأشقاء القلسطينيين، إذ إن هذه الأنظمة بفضل فكر هذا الرجل السابق لعصره، تستمر في مواقعها وعروشها وقصورها!

في السادسة صباح كل يوم، كان عم “عبده”، يفتح دكانه لحياكة الملابس بشارع داير الناحية الرئيسي بالقرية؛ طقوسه لم تكن تتغير.. يكنس أمام الدكان، وبعدها يرشّ المياه ليجفف التراب قبل أن يفرش حصيرته، ثم يبدأ في تجهيز عشقه الأبدي.. “الشيشة” الضخمة التي لم يكن مبسمها يفارق فمه حتى وهو منهمك في عمله.. يجلس ليتناول إفطاره، وبالتدريج يتجمع صحبته الذين هم خليط من العاطلين وأصحاب الأملاك الكسالى.

صار عم عبده ورفاقه من رموز “حتتنا” في قريتنا بالدلتا المصرية يجلسون من الصباح حتى بعد الظهيرة أمام الدكان، يتبادلون فيما بينهم مبسم “الشيشة”، بينما أنفاس الدخان تغطي المكان؛ ومع حركة الشمس وامتداد لهيبها، كانوا ينقلون جلستهم قرب العصر إلى المكان المقابل للدكان من الجهة الأخرى للشارع.. حفظت حركتهم من كثرة مروري عليهم، كان منتهى أملي في طفولتي أن أجلس معهم، وهو ما تحقق وأنا في المرحلة الإعدادية.

هذا الرجل هو أحد أحب الناس إلى قلبي، يتميز بخليط من صفات المصريين الحقيقيين، خفة ظل مع طيبة وعفوية في الكلام، وعدم حساب رزق الغد وترك الأمور على الله.. غير أنني اكتشفت لاحقاً أن عم عبده كان بعيد النظر ويملك رؤية سياسية ثاقبة، استلهمها منه حكام العرب منذ سبعينيات القرن المنصرم!

ما ذكرته عن أسلوب حياته يوضح أنه لم يكن يعمل كثيراً، كانت الأحاديث والمسامرات وأنفاس حجارة الدخان تأخذه من ماكينة “الخياطة”، أو من الإبرة الصغيرة التي يخيط بها وحدها الجلابيب البلدية القيّمة (الزي الشعبي فى مصر)، حيث كان بارعاً في تفصيل هذا النوع بالذات، لذلك كان يهمل جلابيب الأطفال والصبية.

كنا نذهب بقماش الجلباب الجديد للعيد، قبل المناسبة بأربعة أشهر حتى لا يتحجج بالوقت، ويمر يوم وراء يوم وأسبوع يجر الآخر وشهر يتلو الشهر، وهو لا يُسلّمنا الجلباب.. في كل مرة كان يضحك علينا بالقول إنه انتهى منه، وسيجهزه بعد أن نشتري له من دكان البقالة ورقة معسل الدخان، أو أن نغسل له الشيشة، أو نملأ له دلو المياه من صنبور الجامع الكبير المجاور له؛ وبعد أن ننفذ له مطالبه يفاجئنا بأن الجلباب ينقصه بعض الحاجات البسيطة و”تعالوا خدوه بعد يومين”، حتى نصل إلى ليلة العيد، ونتحايل عليه: “والنبي يا عم عبده عاوزين الجلابيات عشان نعيّد بيها.. العيد بكرة”؛ وكالعادة يبتزك ببعض المطالب قبل أن يؤكد لك أن تمر عليه صباح يوم العيد لاستلام الجلباب !

الرد نفسه قاله لبعض أقاربي، ولما ذهبنا إليه ونحن نمنّى أنفسنا بارتداء الجلباب الجديد والانطلاق به إلى مراجيح العيد، كانت المفاجأة الجديدة أنه انتهى منه تقريباً، لكن ينقصه بعض الأشياء، وأنت وحظك، فهذا جلباب ينقصه “الياقة”، وآخر لا يوجد به جيوب، وثالث بلا أزرار، ورابع بدون “أساور”.. وأقنعني وأقاربي بارتداء الجلابيب وهي على هذه الحالة البائسة، قائلاً: “بس خدوها دلوقتي عيّدوا بيها، وهاتوها لي بعد صلاة العصر أكمّل اللي ناقصها”!.

ما كان يفعله عم عبده صقر معنا – وهنا سر عبقريته- هو ما تنفذه بالحرف أنظمة عربية كثيرة، تؤكد لشعوبها أنها تفصّل لهم “جلباباً إصلاحياً”، سيجعل الصنف العربي من الديمقراطية يتفوق بعون الله على نظيريه الأميركاني والفرنساوي.. ويحلم الخيال العربي بيوم عيد الديمقراطية الموعود، وينتظر المواطنون “الجلابيب الإصلاحية” التي تقيهم برد “الجمود”.

ويحل يوم يجر يوماً، وأسبوع يشد أخاه، وشهر يتلو زميله، وسنة تلحق بأختها، والسُّلطة تتأخر في تسليم “الجلباب”.. وفجأة تهلل بانتهائها منه وتزف البشرى بأن السماء ستمطر إصلاحاً! يذهب الشعب لتغيير الجلباب القديم ولبس الحديث، وبعد أن يرتديه تظهر الحقيقة مدعاة لسخرية الزملاء شعوب العالم! إنها مثل جلابيب عم عبده، تنقصها ياقة “شفافية” على زر “حقوق إنسان”، كما لا توجد بها جيوب “حرية تعبير” أو تطريز “انتخابات حقيقية”.. تقنعنا الحكومات أن نرتدي الجلابيب لنعيّد بها، على أن نعيدها إليها بعد صلاة المغرب لتكمل ما ينقصها، قائلة: “الإصلاح يجب أن يتم بالتدريج حتى لا تحدث فوضى، الصبر جميل وخطوة خطوة، وإحنا كنا فين وبقينا فين”.

في كثير من الدول العربية، عشّموا الشعوب بعباءة فضفاضة من التغيير الإصلاحي، ليتضح في النهاية أن العباءة تقلصت إلى مجرد “كوفية” توضع على الكتف للزينة!

فعلها السادات – رحمه الله- في السبعينيات، خرج في زفة ليحرق شرائط تسجيلات مكالمات المواطنين، ويهدم الحجر الأول من معتقل سجن القلعة، ويُبشر ببدء عهد الحرية وتكوين الأحزاب، وذهب الشعب ليرتدي الثوب الديمقراطي الجديد، فإذا بالرئيس يجمع كل رموز مصر والشخصيات الحزبية المعارضة في اعتقالات سبتمبر 1981، وليظهر ثوب السادات الديمقراطي بـــ”أنياب” حسب تعبيره!

ومع مبارك – رحمه الله- خرج رجال وصحفيو السلطة يرقصون، مُبشرين الشعب بأنه سيرتدي لأول مرة جلباب “انتخابات رئاسية متعددة” بعد قرار الرئيس بتعديل المادة 76 من الدستور، وفرح الشعب ونام سارح الخيال بانتظار أن يرى في بلده ما يحدث في الدول المتقدمة، ويتنافس المتنافسون الرئاسيون ببرامج وأفكار ومناظرات وندوات، وحين جاء تسليم جلباب تعديل “المادة 76” فوجئ الشعب أنه ليس على مقاسه، وأن الجلباب تم تفصيله خصيصاً لشخصين لا ثالث لهما.. الرئيس ونجله!

ولأن مصر – قلب الأمة- تؤثر في بقية الأطراف لأسباب تاريخية وثقافية، فقد انتقلت العدوى إلى باقي وطننا الكبير، وبالتالي تُفضي كل أفكار التغيير إلى “جمود”، ويتم تفصيل جميع قوانين الإصلاح ليبقى الأمر “محلك سر”.

كل الشواهد تؤكد أن الجماعة “العواطلية” والكسالى الذين كانوا يجالسون عم “عبده صقر”، استفادوا من خبرته في تفصيل الملابس ناقصة الجيوب والأزرار والياقات، وأن الله قد فتحها عليهم ووجدوا وظائف بعد وفاة عم عبده رحمه الله.  أما الوظائف الجديدة فهي “ترزية قوانين” عند الأنظمة العربية!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...