قصتنا مختلفة عن الأيرلنديين والفيتناميين

بواسطة | مايو 2, 2024

بواسطة | مايو 2, 2024

قصتنا مختلفة عن الأيرلنديين والفيتناميين

وقفت الحشود الهادرة في العاصمة الكولومبية “بوجوتا” تنتظر كلمة من رئيسها، جوستافو بيترو، في الاحتفال بيوم العمال العالمي، الذي يوافق الأول من مايو/ آيار من كل عام؛ لكن الذكرى هذا العام (2024) حملت في جُعبتها هدية للفلسطينيين.

في كلمته، أعلن الرئيس الذي يحظى بتأييد كبير بين أفراد شعبه قائلا: “لن نصمت على ما يحدث في غزة.. نحن – حكومة التغيير وحكومة رئيس الجمهورية- نعلن هنا أمامكم أننا غدا الخميس سنقطع كل علاقاتنا الدبلوماسية مع دولة إسرائيل، لارتكابها – حكومة ورئيسا- جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين”.. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتهم فيها الرئيس الكولومبي إسرائيل بأنها ترتكب إبادة جماعية، بل أكدها مرارا وتكرارا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة منذ سبعة أشهر.

وقبل يوم واحد من موقف الرئيس الكولومبي هذا، شهد العالم انتصارا جديدا، ونقطة تم تسجيلها لصالح طوفان الأقصى، تلك العملية المباركة التي تحولت بمشيئة إلهية حتى لم تعد مقتصرة على أهدافها الأولى في فلسطين، بل امتدت تداعياتها إلى طوفان عالمي لتحرير العالم بأسره من قبضة الصهيونية الخبيثة؛ حيث أعلن الطلاب المتظاهرون بجامعة براون الأمريكية، مساء الثلاثاء 30 أبريل/ نيسان، التوصل إلى اتفاق مع إدارة الجامعة لفض مخيمهم، بعد موافقة الأخيرة على إجراء تصويت في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل على سحب استثماراتها من الشركات الداعمة لـ”إسرائيل”.

هو الانتصار الأول من نوعه في معركة التمرد الطلابي، التي اجتاحت جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، منذ الثامن عشر من نيسان/ أبريل هذا العام، حين بدأ طلاب رافضون للحرب الإسرائيلية على غزة اعتصاما بحرم جامعة كولومبيا في نيويورك، مطالبين إدارتها بوقف تعاونها الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية، وسحب استثماراتها في شركات تدعم احتلال الأراضي الفلسطينية، لكنه وبسبب اختيار إدارة الجامعة للحل الأمني، واستدعائها قوات الشرطة للتعامل مع الطلاب المعتصمين، واعتقال العشرات منهم، فقد توسعت حالة الغضب لتمتد المظاهرات إلى عشرات الجامعات الأمريكية، ومنها جامعات عريقة ورائدة، مثل هارفارد، ونيويورك، وجورج واشنطن،ونورث كارولينا، وييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ولاحقا، اتسع الحراك الطلابي المؤيد لفلسطين، ليشمل جامعات في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا والهند، ليصبح بذلك الاحتجاجَ الطلابي الأوسع في التاريخ الحديث، ويذكرنا بالتمرد الطلابي في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن الماضي، الذي جاء اعتراضا على دور بلادهم في الحرب على فيتنام.

العجيب، أن يوم الثلاثاء في 30 أبريل/ نيسان لهذا العام، والذي شهد أول انتصار لحركة تمرد طلاب الجامعات، وافق الذكرى الـ 49 لسقوط مدينة سايجون عام 1975، واستيلاء الجيش الشعبي لفيتنام عليها، إيذانا بانتهاء حرب فيتنام وبدء فترة انتقالية من إعادة التوحيد الرسمي للجمهورية الاشتراكية؛ وقد سبق سقوطَ المدينة أكبر عملية فرار وإخلاء بالمروحيات في التاريخ، لإجلاء المدنيين والعسكريين الأمريكان. وكانت الوحدات القتالية البرية للولايات المتحدة قد غادرت جنوب فيتنام بالفعل في عام 1973، أي قبل سقوط سايغون بعامين، وذلك عقب هزائمها المُذلة، على يد قوات تحرير فيتنام، التي عرفت باسم “فييت كونج”.

لم تذهب القوات الفيتنامية من موطنها في أقصى الشرق لمحاربة أمريكا، ولم تقم بتهديد مصالحها، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أتت من أقصى الغرب لمحاربة الفيتناميين.. بدأ الأمر حين تم تقسيم فيتنام إلى شمالية وجنوبية، حيث قامت أمريكا برئاسة الرئيس الأمريكي “آيزنهاور” بدعم فيتنام الجنوبية عسكريًا فى مواجهة فيتنام الشمالية المدعومة من الصين والاتحاد السوفيتي، بدعوى إسقاط أي حكم شيوعي في آسيا.

واستمر هذا الدعم في عهد الرئيس الأمريكى “جون كيندي”، حتى إنه وقع معاهدة صداقة بين بلاده والنظام في “سايجون” عام 1961م، ووصلت طلائع الجيش الأمريكي في ذلك العام حتى بلغت 400 جندي، ثم ارتفعت في العام الذي يليه إلى 11 ألف جندي، ثم انتهز الرئيس الأمريكي “جونسون” الفرصة، بعد تعرض القاذفات البحرية الأمريكية للهجوم من طرف قوات التحرير الوطني الفيتنامية، لشن هجوم عسكري شامل على فيتنام، وقصفها بسلاح الجو، وقد ظل الوجود العسكري الأمريكي يزداد في فيتنام حتى وصل في نهاية عام 1965م إلى ما يناهز مئتي ألف جندي، ثم وصل في صيف 1968م إلى 550 ألف جندي.

ولم تترك أميركا أي وسيلة عسكرية للضغط على الفيتناميين إلا واستعملتها، بدءا بالتجميع القسري للسكان، مرورا بتصفية الثوار، لتصل إلى استعمال طائرات بي 52 لتحطيم الغطاء النباتي، وانتهاء بتكثيف القصف العنيف للمدن والمواقع في الشمال الفيتنامي في اتباع لسياسة الأرض المحروقة، حيث أسقطت الطائرات الأمريكية حوالي 6.7 مليون طن من القنابل المدمرة والحارقة على فيتنام، وهو ما يعادل كل ما استخدمته أمريكا في أثناء خوضها للحرب العالمية الثانية. مع ذلك، فإن نشر أميركا للرعب، وترسانتها الحربية المتطورة، وأساليبها الوحشية.. كل ذلك لم يؤثر في معنويات الفيتناميين ولا في مقاومتهم.

ولم تكن الصورة الشهيرة التي عُرفت باسم “طفلة النابالم”، وهي لطفلة فيتنامية عمرها تسع سنوات، تدعى”فان ثي كيم فوك”، تجرى عارية وتصرخ بعد حرق ملابسها وجلدها؛ نتيجة قصف قريتها “تراج بانج” بقنابل النابالم، في عملية صُنفت كواحدة من أبشع الصور فى القرن العشرين، إلا تجسيدا لوحشية تلك الحرب الأمريكية وفظاعتها.. وقد حصل المصور الفيتنامى “نيك أوت” مراسل وكالة الأسوشتيد برس عام 1972م، من خلال تلك الصورة، على جائزة “بوليتزر” عام 1973م، عن فئة تصوير الأخبار العاجلة، وكانت واحدة من الأسباب التي سرّعت في إنهاء تلك الحرب، حيث زادت من الرأي العام المناهض ضدها، ورفعت من وتيرة التظاهرات.

وعلى الرغم من أن خسائر الفيتناميين طوال سنوات الحرب الثمانية بلغت مليوني قتيل، وثلاثة ملايين جريح و12 مليون لاجيء، فإنها كانت مصدر فخر وعزة، تحتفل فيتنام بذكراها في كل عام.. بينما الحرب التي تُعد وصمة عار في التاريخ الأمريكي انتهت بجلاء القوات الأمريكية، مهزومة مأزومة، بعد أن فقدت 58 ألفا من جنودها، وسقط فيها أكثر من 150 ألف جريح، مع خسائر اقتصادية فادحة، فقد تحدثت تقارير رسمية عن إنفاق أمريكا 738 مليار دولار على تلك الحرب الطويلة والشرسة، والتي لم تتمكن فيها من إخضاع الفيتناميين، الذين أنشؤوا شبكة أنفاق تحت الأرض، هائلة ومعقدة، كانت بمثابة الجحيم للأمريكيين.

وقد شهدت الحرب انتشارا لظاهرة الهروب من التجنيد الإجباري في أمريكا، بل وتفشي حالات الإدمان والانتحار بين الجنود الأمريكيين، فيما عُرف باسم “متلازمة فيتنام”. وسجل المؤرخ الأمريكي “ديفيد هاكوورث” مقولة أحد المقاتلين الفيتناميين، أثناء حديثه معه، وفيها: “كنا نعلم أن مخزونكم من القنابل والصواريخ سوف ينضب في وقت أقرب من معنويات مقاتلينا. نعم، كنا أضعف من الناحية المادية، لكن روحنا القتالية وإرادتنا كانتا أقوى منكم، كما أن حربنا كانت عادلة، بينما حربكم لم تكن كذلك”.

ذكرتتي عبارات المقاتل الفيتنامي هذا بمشهد من رواية “الشوك والقرنفل”، تلك الرواية البديعة التي ألفها المجاهد والبطل والأديب والقائد لحركة حماس “يحيى السنوار” أثناء تواجده أسيرا في السجون الإسرائيلية، التي قضى فيها 23 عاما قبل أن يتم تحريره في صفقة الأسير الإسرائيلي “جلعاد شاليط”. في ذلك المشهد يقف بطل القصة “إبراهيم” – والذي يعتقد كثيرون أنه تجسيد لشخصية السنوار نفسه- عقب انضمامه لمجموعة الشيخ “أحمد ياسين” المقاومة، ليخاطب عائلته قائلا: “بدأنا نفهم أن للصراع وجها آخر غير ما كنا نعي وندرك، فالمسألة ليست فقط مسألة أرض وشعب طُرد من هذه الأرض، وإنما هي عقيدة ودين، معركة حضارة وتاريخ ووجود، فقصتنا مختلفة عن الأيرلنديين والفيتناميين؛ لأن المسجد الأقصى يتربع في قلبها”.

في الأخير، علينا أن نوقن أنه مهما طالت الحرب على غزة، ومهما عظُم الألم واشتد النزيف، فقضية فلسطين العادلة حتما ستنتهي – بفضل الله ومشيئته- بالنصر المبين.

8 التعليقات

  1. علي عباس

    اعجبني المقال. تحيه كبيره من القلب للاخت شيرين
    وتحيه كبيره للمقاومه.
    وعندي رجاء
    هل يمكن إرسال رواية الشوك و القرنفل للمجاهد العظيم يحيى السنوار
    على الايميل الخاص بي.

    الرد
  2. زياد الحلو

    مقال جميل جدا
    شكرا جزيلا لجهودك الجبارة

    الرد
  3. ahmeddahab

    احسنت النشر
    السعادة والهنا لقلبك وروحك وحياتك يارب

    الرد
  4. عمر

    أستاذة شيرين عرفة
    بارك الله فيكم وفي علمكم وعملكم ونفعنا الله بما تكتبون وأثابكم عليه خيرا كثيرا وجعله في ميزان حسناتكم
    حفظكم الله من كل مكروه وسوء
    دائما متألقة ومبدعة …

    الرد
  5. خالد عبد السلام

    ما أشبه الليلة بالبارحة . النصر آت بإذن الله
    شكرا على المقال الرائع

    الرد
  6. محمد مصطفى عفيفي

    التاريخ خير مدرسة لمن أراد أن يتعلم، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. بارك الله فيكم وجزاكم خير الدنيا والآخرة.

    الرد
  7. Fawzy Elganiny

    تسلم ايدك

    الرد
  8. محمود عمرو

    الله الله الله. استمتعت جدا جدا، مقال أكثر من رائع ####👏👏👏

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...