قمار” سعد زغلول.. و”خمر” جمال عبد الناصر!

بواسطة | مارس 19, 2024

بواسطة | مارس 19, 2024

قمار” سعد زغلول.. و”خمر” جمال عبد الناصر!

في عصرية كل يوم كانت الحاجة فاطمة، زوجة عمي الشيخ أحمد (عليهما رحمة الله)، تجمعنا نحن – صبية وأطفال العائلة- فوق سطح المنزل.. تعطينا الحلوى، وتجلس لتحكي لنا بصوتها الأقرب إلى صوت طفلة بطولات ونوادر زوجها، الذي تُوفِّي منذ سنوات طويلة.. “مرّة مسك حرامي في البيت، راح حاطط بندقية الرصاص على دماغه، وعلّـقه من رجله في السقف، وقعد يضـربه لما عدمه العافية”.

هكذا كانت تحكي، قبل أن تنفرج أساريرها وتكتسي بشـرتها البيضاء بحُمرة خجل، وهي تضفي نوعاً من الهالة الإنسانية على تعامله معها: “ما كانش مخلّيني محتاجة حاجة، وكان يقولّي إنتي نوارة وست البيت”، ثم ترنو ببصـرها وجسدها الضئيل إلى السماء حيث طائرة تُحلّق من بعيد: “شوف يا شريف، الطيارة دي فيها عبد الرؤوف إبن عمك، مسافر لأن عمك حلف إنه لازم ياخد الشهادة الكبيرة من بلاد بره عشان يرجع ينفع بلده وناسه”.

ظللنا سنوات نستمع إلى أمجاد هذه الشخصية الأسطورية، التي عجز عقلنا عن التفكير في كيفية تحقيق قدر من بطولاتها، حيث كان وفديّاً (نسبة لحزب الأغلبية المصـرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي)، وشيخاً أزهريّاً، وذا مكانة اجتماعية كبيرة.

لما كبرنا كانت صدمتنا شديدة في عمي الشيخ أحمد.. فالرجل على حقيقته يختلف عن الصورة الوردية التي رسمتها زوجته المخلصة، إذ كان ديكتاتوراً مع إخوته، بصفته شقيقهم الأكبر الذي تحمّل عبء المسؤولية المعنوية للأسرة بعد وفاة جدي، كما تعامل بالشدة نفسها حتى مع شقيقه الأصغر لواء الشـرطة.

لم يمارس الشيخ أحمد دور الأخ الكبير الذي يؤثر عادة مصلحته الشخصية لو تعارضت مع مصلحة أشقائه الصغار، بل اتهمه بعض إخوته (رحمهم الله جميعاً) بأنه “أكل بعض أموالهم ظُلماً”، خاصة ميراثهم من أمهم.

مع أولاده كان “سي السيد” بامتياز، يأكل أولاً ثم يأكلون، عقابه شديد لمن يخطئ منهم، حتى إنه حلق رأس ابنه الكبير عندما رسب في إحدى سنوات دراسته بكلية العلوم، ما سبب له عقدة جعلته يهجر قريتنا ومصـر كلها إلى فرنسا هرباً من سوء المعاملة، ليبتعد عن الوطن سنوات وسنوات، وحتى لمّا عاد إلى مصـر استمر في هجر قريته، ولم ينفع لا أهله ولا ناسه كما كان يخطط والده.. أما المفاجأة الأشد، فكانت أن الشيخ أحمد كان يعامل زوجته – التي قدّسته حيّاً وميتاً- بقسوة شديدة، بل ولم يتورع عن محاولة الزواج عليها عدة مرات!

صدمتي في عمي الشيخ أحمد أفقدتني الثقة في كل ما أسمعه عن الشخصيات المؤثرة، سواء في تاريخ عائلتي أو تاريخ الوطن ككل، خاصة أن صدمات مماثلة تعرضت لها في شخصيات تاريخية “كاريزمية” شهيرة، فهذا أدهم الشـرقاوي الذي أنشدنا بطولاته في مواويل وفيلم ومسلسل عن قصة حياته، لم يكن – كما كشف الكاتب والمؤرخ الكبير الراحل صلاح عيسـى- سوى قاطع طريق وقاتل محترف بأجر؛ وذاك سعد زغلول زعيم الأمة، يعترف في مذكراته بإدمانه القمار، ويوصي بألا يحمله مسلمون أو يُدفن في مقابر المسلمين إذا استمر في هذا الداء اللعين.

لكن كل هذه النواقص لا تمنع من إعطاء النماذج التي ذكرتها حقها من المزايا، فقد اكتشفت مؤخراً أن عمي كان يكتب مذكراته يوماً بيوم، ويشـرح من خلالها الأحداث التي يمر بها، ويسجل حالة المجتمع المصـري السياسية والاجتماعية والمعيشية من الثلاثينيات حتى تاريخ وفاته في السبعينيات من القرن المنصـرم.. وفي حالة إنسانية مؤثرة ومشاعر مفرطة، حرص على تدوين مشهد مرض ووفاة ابنته الشابة بعد فراغه من دفنها وتلقي العزاء فيها.

وحتى أوضح أهمية عمل كهذا وفائدته، أشير إلى أن الأمية كانت تضـرب الريف بعمق في فترة حياته، وكان من النادر أن تجد مُتعلماً بين أقرانه، وحتى لو وُجد فإنه لم يكن يصل إلى الدرجة التي كان هو عليها في الثقافة والوعي.. وقد يكون شعوره بالتفوق على كل أبناء قريته هو الدافع وراء حالة الديكتاتورية والتعالي التي ميزت شخصيته.

بالمثل، كان أدهم الشـرقاوي شجاعاً ومغامراً وصاحب شخصية قيادية، حتى لو ضل طريقه! أما سعد زغلول، فإن إدمانه للقمار في مطلع شبابه لم يمنع من أنه تحول فيما بعد ليصير أحد أبرز رموز النضال المصـري، وزعيماً شعبيّاً حقيقيّاً مفوضاً من الأمة.

تذكرت هذه الوقائع بعد حالة الجدل الشديدة، التي صاحبت  تصـريحات للدبلوماسي والكاتب المصـري المعروف د. مصطفى الفقي، بشأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر واحتسائه الخمور، إذ هبت عاصفة سب من دراويش عبد الناصر ضد الفقي، دفعته للاعتذار عن كلماته بحق الزعيم الذي صوّره محبوه بشكل يكاد يبعده عن الطبيعة البشـرية.. “قتلناك يا آخر الأنبياء” لنزار قباني نموذج لذلك !

قبل سنوات اعترض أيضاً أحفاد شيخ العرب همام، أحد الرموز المصـرية في عهد المماليك، على المسلسل الذي تناول سيرته، بدعوى أنه يسيء إليه، ووصل اعتراضهم إلى مناشدة كبار المسؤولين التدخل لمنع إعادة عرض العمل مرة أخرى.

اعتراض هؤلاء الأحفاد ليس جديداً، فقد سبقهم أقارب شخصيات شهيرة رفضوا أعمالاً تتناول حياة هذه الشخصيات، من أنور السادات إلى أسمهان، ومن عبد الحليم حافظ إلى سعاد حسنى.. الكل يريد إظهار قريبه في صورة القديس المُنزّه عن الخطأ والملاك كامل الأوصاف، فضلاً عن أن كتب التاريخ نفسها في عموم العالم العربي تسير على المنوال ذاته، وتتجنب الاقتراب من المناطق الشائكة في سيرة أي شخصية تاريخية، سواء كانت دينية أو سياسية، وتعمل على إظهارها بصورة قد تكون خيالية، وكأنها بلا أخطاء أو خطايا كسمة طبيعية من سمات البشر.

لو أدرك القائمون على تقديم التاريخ بهذه الصورة خطورة ما يفعلون على الأجيال الناشئة لتراجعوا فوراً، فما الفائدة من تقديم أية شخصية بلا نواقص وبشكل أقرب إلى الأسطورية، ما يجعل الطفل وهو يقرأ عنها يدرك استحالة أن يصل إلى مستواها وهي على هذا القدر من الإعجاز؟!. لكن لو قرأ أبناء الجيل الجديد سيرة أبطال بلدهم أو دينهم على حقيقتها بلا مبالغات، فوقتها ستزداد الحوافز لديهم للوصول إلى مثل مكانتهم، إذ إن السابقين كانوا بشرا، وأبناء هذا الجيل هم أيضاً كذلك.

إنها دعوة لنعيد كتابة تاريخ الشخصيات التي أثرت في التاريخ العربي والإسلامي – سواء سلباً أو إيجاباً- بحيادية ومنطق، وبمزاياهم وسلبياتهم، فوقتها قد نصل إلى مرحلة من النضج تجعلنا في مستوى الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم عند تقييمه أي شخصية بمنطق وعقلانية.. “عمل حاجات معجزة.. وحاجات كتير خابت”.. هكذا لخّص في ست كلمات مُعبرة سيرة ومسيرة جمال عبد الناصر!

1 تعليق

  1. Lady Gaga

    أستاذي الكاتب ،
    أعجبتني الفكرة التي طرحتها في مقالك لهذا اليوم ، لكن أجدني اليوم أتفق معك في بعضها و لا أتفق في البعض الآخر .
    أتفق بشده مع زوجة عمك الشيخ أحمد .. نِعم الزوجة و نِعم القدوة لي و لغيري من النساء ، من الجميل أن نضيء على الجانب المشرف و نركز انتباه أطفالنا عليه في شخصيات قد تكون قريبة منهم أو قد تكون رموزا بعيدة عنهم ، لأن الطفل يحب أن يرى بطله الخارق الذي لا يخطئ ، ليس من الحكمة أن نستعجل في كشف كل الحقائق أمامهم و ذلك حتى لا يتسبب ذلك في خلل لديهم و في انعدام الثقة في مثلهم الأعلى ، و هذا ما اختارته زوجة عمك بحكمتها و حصافتها
    لكل منا جوانب خفية لا يعلمها إلا الله و نعلم ليس هناك كمال على هذه الأرض ، فمثلما كبرت أنت و بدأت أفكارك في النضوج و بدأتْ الحقائق تتكشف أمامك شيئاً فشيئاً و كما ذكرت قد فقدت الثقة في كل الرموز ولكن بعد أن زادت خبرتك في الحياة كنت أكثر استعداداً لتقبل الحقيقة بوجهيها و استيعابها بقدر من العدالة ، كما هو الحال مع الجيل الحاضر عندما يكتشف الجوانب المظلمة في شخصيات رموزهم و مثلهم الأعلى .
    أرى من الصواب التركيز على الجانب الإيجابي و على ما حققته هذه الرموز وعدم المساس بالصورة الكلية او تشويهها خصوصا إن كان ذلك الجانب الخفي جانب شخصي بحت لم يؤثر على نزاهة أهدافهم و مسيرتهم في تحقيقها ، و لنترك للمهتم بهذه الشخصيه مهمة البحث و تقصّي الحقيقة ، لأن في رحلة البحث متعة و نضوج أكبر و أعمق .
    و حتى لا نسمح للنفوس البشرية المترصدة لأخطاء الآخرين في تعظيم الخطأ و تشويه الصورة الكلية .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...