لماذا الأسد ملك الغابة؟!

بواسطة | مايو 31, 2024

بواسطة | مايو 31, 2024

لماذا الأسد ملك الغابة؟!

بهذا السؤال افتتح ولدي – ذو السنوات التسع- باب النقاش، متسائلًا عن السبب الذي دفع الأسد إلى سدة المُلك دون غيره من الحيوانات!.

أضاف في تشكك: الفهد أسرع منه إن كانت السرعة هي المقياس، والقرد أكثر خفة في التسلق والمراوغة، والثعلب – كما أخبرتموني- هو الأكثر خبثًا ودهاءً، وإن وضعنا معيار الحجم على الطاولة فلا أظن أن الفيل سيترك حقه إذن.. هززت رأسي متفهمًا قبل أن أقول له: سؤال وجيه، دعني أنهي ما في يدي من أعمال، ثم لنجلس سويًا في المكتبة لنصل إلى إجابة سؤالك.

مذ قرأت عن أهمية أن نُعلّم أبناءنا التساؤل وإرشادهم إلى طرق علمية صحيحة، يفتشون فيها عن الإجابات الموثقة، صار التمهل ديدني قبل إجابتي على أسئلة أطفالي؛ فليس هناك أخطر من الحلول السريعة التي تقف كعقبة كؤود أمام إعمال عضلة العقل والتفكر، كما أن فكرة الأب الذي يعرف كل شيء باتت من التراث الفاسد، الذي نحتاج إلى دفنه بعدما أسلمَنا إلى واقعنا الذي نعيشه ونتعذب به.. علينا دائما أن نُشعر أبناءنا أن الإجابة حاضرة مع بعض الجهد، وأن ثمة حلاوة في البحث والتنقيب، وهذا ما قررت فعله مع صغيري في ذلك اليوم.

ساعة أو يزيد مرت قبل أن يأتيني الصغير ثانية بدفتر الرسم خاصته، يخبرني بأنه قد اجتهد في إجابة سؤاله السابق، وأنه قد رسم لي السيناريو المتوقع، الذي جعل من الملك أسدًا للغابة!.

وضع الدفتر أمامي ثم بدأ مع تقليبه الصفحات يقرأ في حماسة: “يُروى في قديم الزمان أن كانت الحيوانات تعيش مع بني الإنسان، ومع الوقت بدأت الحيوانات تضيق بسلوك الإنسان السيئ، وتشعر بالألم من تصرفاته.. وكان أكثر الحيوانات ضيقًا مما يحدث هو الأسد، الذي اختلى بنفسه بعيدًا، وهو يفكر في طريقة ليرتاح هو وباقي الحيوانات من إزعاج بني البشر؛ وبينما هو حزين إذ وجد كنزًا من المال والذهب مدفونًا في الأرض! أخذ الأسد الكنز، واشترى خارج المدينة قطعة أرض كبيرة مزروعة بالأشجار، ودعا كل الحيوانات ليعيشوا معه في تلك الأرض التي سماها “الغابة”.. وهكذا أصبح الأسد ملك الغابة.. بفلوسه!!”.

نعم.. هذا ما تفتق عنه ذهن صغيري الذي لم يخبر من الحياة إلا وجهها البريء، ولم يرتد ثياب الكفاح بعد.. فطن بأن المال هو الذي وضع الأسد على كرسي المُلك، وأنه – لا غيره- سبب الفخر والعز الذي يرتع فيه!

كانت صدمتي بكلماته كبيرة، وضعتني أمام حقيقة أن ما ننفقه في تربية أبنائنا يمكن أن يضيع ونحن في غفلة، وكيف لا ومثلي يزعم بأنه يولي للجانب التربوي والقيمي حجمًا لا بأس به في تربية أبنائه، ولا أظنني يومًا قلت له بأن المال هو الذي يرفع الناس، ويبني لهم المجد والشرف.

جاء صغيري بقصته البسيطة ليضعني أمام أحد أهم دروس الحياة، وهو أن التربية شيء آخر غير ما أقوله وأردده على أذنيه صباح مساء، التربية التي تصوغ الوجدان تحدث على طاولة الطعام، وتتجذر بحوارنا الأسري الذي قد ننهمك فيه نحن الكبار، دون أن ننتبه إلى أذن الصغير المصغية، وفؤاده المتجهز للالتقاط والتخزين.

كم مرة رآني أحدث أمه عن وضعنا المالي؟ كم مرة لمح البِشر على محياي وأنا أتحدث عن رصيدي البنكي؟! كم مرة رأى القلق يخيم فوق رأس والديه، وهم يحسبون مدخراتهم ويُقسمونها، ويعيدون التقسيم حتى تعتدل كفة الميزانية؟.. هذا في أمر المال، وإنه لو تدري هين أمام أمور أخرى!!

أتراني أخبرته يومًا – بلسان الحال أعني- أن الجُبن والخوف هما طريقا السلامة الأقرب؟ هل تُراني نزعت ما زرعته فيه من حب الله برؤيته لي يومًا أخاف غير خالقي؟!

الرافعي في “وحي القلم” يخبرنا أن “رؤية الكبار شجعانا هي وحدها الكفيلة بجعل الصغار شجعانا”، وكأنه يترك لي إكمال جملته بأن رؤيتهم جبناء هي الطريقة المثلى لجعلهم جبناء خائفين، غير جديرين بممارسة دورهم الحقيقي في الحياة.. الآن باتت مسؤوليتي صعبة جدًا!

في زمن لا يقبل رواده التنظير الجاف، بات الواحد منا مجبرًا على أن يجعل من سلوكه ترجمة حقيقية لما يؤمن به، وعليه صرت مدفوعًا إلى أن أُري صغيري أنْ لا شيء في الدنيا يرهبنا كالخوف من الله، وأنّ الله خلق الإنسان حرًا فلا يجب أبدًا أن يُستعبد، أو يسمح لغيره أن يملك رقبته؛ وأن رأس مال المرء منا بعد هناء ضميره في مواقفه المُشرفة، وكفاحه النبيل، ومشواره الشريف.

أنا بحاجة إلى أن أُترجم كل ما قلته له – ظانًا بأني أربيه- إلى سلوك واضح، فالمواقف أبلغ كثيرًا من سيل الكلمات، والأوامر والنواهي.. ولا يمنع كل هذا من أن أخبره بلسان المقال أيضًا أن الحياة جميلة بتدافع أهلها، وأن التعب هو ثمن النجاح الذي يجب دفعه مُقدمًا، وأن المال وسيلة لبلوغ الغاية، لكنه غير قادر على جعلنا سعداء، ولا هانئين..

كما أنه لا يملك أن يجعل الأسد.. ملك الغابة!!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...