لماذا غُيِّب فكر حامد ربيع

بواسطة | أكتوبر 10, 2023

بواسطة | أكتوبر 10, 2023

لماذا غُيِّب فكر حامد ربيع

ربما لم ينل عالِم وأكاديمي عربي ما ناله الدكتور حامد عبد الله ربيع (١٩٢٤-١٩٨٩م) من علوم ومعارف شتى في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية، وهو الذي خط لنفسه مسارا أكاديميا فريدا من نوعه، لم يسبقه إليه أحد من قبله؛ فقد سافر إلى أوروبا، ومكث فيها طويلا دارسا ومُدرِّسا وباحثا متنقلا بين جامعاتها ومراكزها وكنائسها، ليعود محمّلا بأكثر من خمس شهادات دكتوراه في اجتماع التاريخ وفلسفة القانون وعلوم النقابات، وكذلك في اللاهوت المسيحي والفلسفة والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا.
إضافةً إلى ذلك، أجاد حامد ربيع خمس لغات هي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، ومعها اللغة اللاتينية، وهي المصدر والمرجع لكل اللغات والعلوم الأوروبية، وبكل هذه اللغات تحدث حامد ربيع وكتب وألَّف ودرَّس، واطَّلع من خلالها على كنوز التراث الفكري والفلسفي الأوروبي، هذا فضلا عن لغته العربية التي كان عالما ضليعا بها.
لقد شكلت السنوات الطويلة، التي قضاها حامد ربيع في أروقة وردهات مكتبات الجامعات الأوروبية، فرصة ثمينة اطَّلع خلالها على أوروبا من الداخل، وسبَرَ أغوار العقل الأوروبي جيدا، علميا وفلسفيا ونفسيا، وهذا ما جعل حامد ربيع يبدو بكل هذا الاتِّساع المعرفي، الذي جعل منه مرجعا معرفيا وأكاديميا وسياسيا في عديد من الحكومات والمحافل الأكاديمية والثقافية، في العالمين العربي والغربي على حد سواء.
كان حامد ربيع شخصية فريدة حقا، فرغم عيشه الطويل في أوروبا وجامعاتها، وإتقانه لعدد من لغاتها، وسبره لأغوار الثقافة الغربية؛ فإنه ظل ذلك العربي المسلم المعتز بدينه وتراثه، الذي لم تزِده معرفة الغرب إلا تمسّكا بعروبته وإسلامه، ولم تبهره مباهج الحضارة الغربية على جلالها وسطوتها وبريقها حينها، كقوى إمبراطورية مُستعمِرة لمعظم شعوب العالم  الذي كان يرزح تحت سطوة هذه القوى الغربية المهيمنة؛ بل ظل حامد ربيع مع ذلك ينظرُ للغرب نظرة عادية كقوى تعيش ذروة حضورها في التاريخ، وأن هذا الحضور ليس نهاية الكون والتاريخ، وإنما هو حضور على رأس دالة حضارية لن يستمر فيها الغرب إلى ما لا نهاية، وأنه لا بد لكل ذروة في الصعود من لحظة أفول وانحدار، ككل شعوب الأرض التي تأخذ ببعض أسباب صعودها وتغفل عن بعضها الأخر، ما يجعلها معرضة للانتكاسة مرة أخرى وفي أي لحظة.
أما عن العالم الإسلامي وتراثه، فقد كان ربيع يرى أن العالم الإسلامي يعيش في قعر التردي والسقوط الحضاري، وأن هذا السقوط الذي يمر به العالم الإسلامي هو سقوط طبيعي، لتنكُّب المسلمين عن سنن الشهود والوجود الحضاري؛ وتراجعهم هذا هو نتاج طبيعي لأزمة يعيشها المسلمون، وهذه الأزمة هي في الأفكار التي تعكس حالة من التيه والضياع التي جعلت العالم الإسلامي يبدو لقمة سائغة للمستعمِر، وهذا بدوره رسم تصوُّره الخاص عن الإسلام والمسلمين، وعمَّم هذه التصور على المسلمين أنفسهم، الذي يستقون أخبار تاريخهم وتاريخ أفكارهم وتراثهم من المستعمِر نفسه.
بهذه النظرة الفاحصة والرؤية الثاقبة، التي كان حامد ربيع ينطلق منها في رؤيته للعالم من حوله بشرقه وغربه، قديمة وحديثه، تلك النظرة المبنية على قراءة موسوعية شاملة، انطلق منها الرجل في تحليل وتفسير العالم كله، تكمن إشكالية الفكرة الربيعية -إن صح التعبير- وهي إشكالية الشمول والتكامل التي انطلق منها الرجل، وخروجه عن قوالب النظرة التقليدية المسبقة للشرق والإسلام عن نفسه، وللغرب ونظرته الاختزالية للشرق والإسلام أيضاً.
ورغم كل هذا، فإن فكر حامد ربيع ظل حبيس الأطر الضيقة جداً للنخب الفكرية والسياسية، والتي ساهم بعضها في أن يظل فكر حامد ربيع محصورا في دوائر هذه الإطار الأكاديمي الضيق، لأسباب عدة أخرى ساهمت بشكل أو بآخر في تغييب فكر الرجل، وإبقائه خارج دائرة الاهتمام العام، مع كل ما فيه من عمق وموسوعية وأصالة وتجديد لم يسبقه لها أحد من قبله.
ومن جملة أسباب تغييب فكر حامد ربيع أيضا، التزاوج الفريد بين العروبة والإسلام في فكره، هذا التزاوج الذي جاء في فترة صِراع نكِد بين العروبة والإسلام في تلك المرحلة بفعل صراع التيارات المؤدلجة بين قومية وإسلامية، هذا الصراع النكد الذي تمت تغذيته من قبل السلطات الحاكمة لضرب تيارات الأمة بعضها ببعض، وإشغالها بنفسها عن أي محاولة جادة للعمل البنّاء في تصحيح مسار هذه السلطات الحاكمة، والدفع بها نحو الإصلاح السياسي والتنمية والاستقرار.
لهذه الثنائية التكاملية الربيعية بين العروبة والإسلام، زهد كلا الفريقين عن فكر حامد ربيع، فنظر له الإسلاميون على أنه عروبي متعصب للعروبة، ونظر له القوميون العروبيون على أنه إسلامي ضيق الأفق، ومأسور بتراث الإسلام الذي لم يعد قادرا على الإجابة عن أسئلة العصر، غير مدركين أن أسئلة العصر كلها لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال نظرة الإسلام الواسعة والرافضة للقوالب الأيديولوجية الجامدة والضيقة.
من أسباب تغييب فكر حامد ربيع السياسي أيضا، وهو الذي شغل مناصب استشارية كبيرة لكل من الرئيس جمال عبد الناصر عام ١٩٦١م، والرئيس صدام حسين طوال ١٩٧٩، أنه لم يكن منساقاً مع أخطاء الرئيسين، وهو ما جعله ينصرف سريعا عن هذه الصفة الاستشارية متعللا بانشغاله الأكاديمي والبحثي الدائم، ما جعله محط حسد وازدراء النخب السياسية المحيطة بالرئيسين ناصر وصدام، تلك النخب التي كانت حريصة جدا على إبقاء حامد ربيع وفكره بعيداً عن أي حضور وذيوع وانتشار.
من تلك الأسباب لتغييب فكره أيضا، أن الرجل ظل بعيدا عن الأضواء الإعلامية، التي كانت هي الأخرى غير متاحة إلا لمن ترضى عنهم السلطات الحاكمة حينها، وبالتالي ظل حامد ربيع مغمورا ومشغولا بالدرس الأكاديمي، ولم يتعرف عليه الجمهور العام قبل عصر الفضاء المفتوح، الذي بدأ مع متنصف تسعينيات القرن الماضي مع كسر احتكار التلفزيون الرسمي، الذي كان يحتكر كل شيء ولا يقدم للجمهور إلا من يرضى عنهم الحكام، فيتصدرون الشاشات لتبرير فشل الحكام، وشرعنة وجودهم السياسي.
ترك حامد ربيع تراثا فكريا سياسيا مهولا في ما يقارب أربعين كتابا ومئات الدراسات والأبحاث تحقيقا وتأليفا، ويأتي في مقدمتها كتابة “مدخل لدراسة التراث السياسي الإسلامي” بجزأيه، وهو عمل بحثي وفكري كبير مخر به عباب التراث السياسي الإسلامي لدى الإمام الغزالي وإمام الحرمين الجويني وابن رشد وابن أبي الربيع وابن خلدون، وكل من كتب في التراث السياسي الإسلامي، محاولاً أن يصوغ نظرية سياسية مستوحاة من تراث الإسلام الأول؛ كما قدم حامد ربيع دراسة تحقيقية دقيقة لكتاب “سلوك المالك في تدبير الممالك” لابن أبي الربيع، وهو كتاب يعتبر فريدا من نوعه في مقاربة أوليّة للفكر السياسي الإسلامي.
أما فيما يتعلق بالحركة الصهيونية، فلم يسبق أي من “الدكاترة” حامد ربيع في وضع مقاربة علمية دقيقة للحركة الصهيونية وتجلياتها المختلفة سياسيا وإعلاميا واقتصاديا وفكريا، ولعل حامد ربيع كان صاحب المصطلح الأول في تعريف الدولة الإسرائيلية كدولة طفيلة وظيفية كآخر تجليات المرحلة الإمبريالية، فقد قدم ربيع هنا العديد من المقاربات والكتب التي تناول فيها الدولة الصهيونية كـ”إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي” و”النموذج الإسرائيلي للممارسة الإسرائيلية” و”من يحكم في تل أبيب” وغيرها العديد من الكتب حول الصهيونية، كحركة ودولة ومجتمع.
لقد ترك حامد ربيع خلاصات مهمة في الفكر السياسي الإسلامي والفكر الإستراتيجي، ولكن هذه الخلاصات لم تجد من يهتم بها ويبني عليها مقاربات نظرية تفسيرية يستكمل بها ما بدأه الرجل في هذا السياق، بل الذي حدث هو العكس اليوم، فقد تم تجاهل تاريخ الرجل وفكره ومقارباته، ودفُن في ذاكرة النسيان، مع أن الجميع في أمس الحاجة لفكره ولمقارباته الغزيرة والكثيرة والعميقة، وإنه لمستغرَب حقا أنه حتى الآن يستمر تجاهله، ولم يلتفت أحدُ لتراثه الفكري وهو الذي يُفترض أن يُستعرَض فكره وحياته وسيرته ومسيرته في العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه، وفي المؤتمرات والندوات.. رحمة الله عليه.
حالة التغييب لفكر حامد ربيع ترجع بشكل كبير إلى موقفه الصارم من الحركة الصهيونية، ومن الفكر الغربي بمدرسته الفرنسية تحديداً وفلسفته اللائكية المتشددة التي سعت جاهدة للفصل بين الدين والدنيا، ولِعلمنة الدولة وفصلها عن فضائها الحضاري، ومنع جعل الدولة أداة قمع لفرض نمط واحد من التفكير على المجتمع والعالم.
 تكمن عظمة حامد ربيع اليوم بأسبقيته في قراءة وتفكيك الحركة الصهيونية، واعتبارها أداة استعمارية، وأنها جسم غريب تم استزراعه في قلب العالم العربي، وأنه لا يمكن للعالم العربي أن ينهض ويتحرر مادامت الحركة الصهيونية تقتطع هذا الجزء الإستراتيجي والمقدس من أرض العرب، وفيه ثاني أماكنهم المقدسة، القدس وقبة الصخرة، وهو الأرض التي تربط شرق العالم العربي بغربه.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...