سرطان اللجان

سرطان خبيث ينخر في العالم الرقمي، ويركب موجات المواضيع الأكثر تداولاً (التريند)، ليبثَّ سمومه ويركّز على السلبيات، ويصدّر الغثاء ويعظّم التفاهات، يدعو للفرقة والعنصرية بين الشعوب والمجتمعات، لا يهدأ له بال حتى يقضي على كل إيجابي نقي في الفضاء الرقمي.. ولأن من صنعوه يجاورون الشيطان، ويتعلمون منه ما يفرقون به بين المرء وزوجه، يلوكون الكلمات البذيئة في منشورات وتغريدات، لتُخرجَ أحقاد البشر وما في قلوبهم من أمراض في معارك جانبية، وشعارهم إشعال الفتنة بين الناس أجمعين؛ فإنهم مدراء اللجان والروبوتات والرزايا والذباب الإلكتروني.

الروبوتات والرزايا والذباب الإلكتروني وأشياء أخرى

في بداية إفسادهم لمنصات مواقع التواصل كانت اللجان توظف عددًا من الأفراد، مهمتهم إنشاء كمية كبيرة من الحسابات بأسماء وهمية، للتعليق على حسابات الخصوم بموضوعات تحرف بوصلة الحوار عن مسارها الطبيعي بالنقاش في موضوع جانبي مستفز؛ ثم مع تطور التقنيات استعانوا بالروبوتات التي تنشئ آلاف الحسابات الوهمية بصور رمزية وأسماء عشوائية، هدفها متابعة الحسابات التي تخدم مصالحهم، لإعادة نشر منشوراتهم بغرض التعظيم، وإعطاء صورة زائفة للجمهور المتابع بأن الرأي العام يؤيد هذا النوع من التوجهات.

ومع تقنيات الذكاء الاصطناعي أصبحت المهمة أسهل في صناعة الحسابات الوهمية بالآلاف في لحظات، وكتابة التغريدات باللهجات المحلية، وإضافتها بشكل تلقائي في تعليقات مسيئة على حسابات الخصوم لحرفها عن مسار النقاش، وإثارة الجدل بين الفرقاء.

ولكي تكتمل المهمة كان لابد من الاستعانة بالرزايا، وهي شخصيات اعتبارية موالية من إعلاميين وناشطين تم شراء ذممهم لدعم توجهات الذباب، فأصبحت المنفعة بينهما متبادلة، كل منهما يفيد الآخر، كالعلاقة بين الخنزير والطين، هو يستجم في لزوجته، والطين يجد ما يلتصق به.

كيف تعرف الذباب؟

تجتمع في حسابات الذباب الإلكتروني صفات مشتركة أهمها أنها حسابات وهمية حديثة النشأة، ولا توجد دلالة على هوية رقمية حقيقية للشخص الذي يديرها، فالحساب غالبًا باسم مستعار وصورة رمزية لشخصية وطنية، أو لعلم دولة أو لمَعلم ثقافي في بلد ما أو لزعيم، ولا تكاد تجد علاقة حقيقية تربط صاحب الحساب بمحيطه الديموغرافي، ومع قلة المنشورات وكثرة الردود المتناثرة لا تجد على حسابه أي تفاعل يذكر، مهمته الرئيسية إعادة نشر منشورات بعينها، وقد تكون تعليقاته متكررة، ينشط الذباب في أوقات محددة، ويخمد لزمن ثم ينشط مجددًا، ويستخدم وسومًا (هاشتاق) تدعم قضية أو رأيًا بعينه لفترة ما، كما يهتم بالتشويش على حسابات الخصوم، وأبرز صفة في ردوده هي الوقاحة في الأسلوب والقذارة في التعليق.

عندما قرر إيلون ماسك شراء تويتر في أبريل 2022، كانت نسبة الحسابات الوهمية فيه من أقوى التحديات التي تواجه صفقة الاستحواذ، حيث اشترط ألا تزيد عن 5% كي يكمل الصفقة، ما وضع الشركة في موقف حرج؛ لعلمها أن نسبة الحسابات الوهمية وقتها كانت أكبر من 5% بكثير.

تطور أهداف الذباب السياسي

في عالم السياسة الرقمية، خصصت حكومات عربية كثيرة ميزانيات ضخمة لتطوير أهداف اللجان، من الدفاع عن الأنظمة إلى الهجوم على كل ما ومَن يخالف سياسة الدولة، حتى ولو كانت المخالفة لقرارات مستبدة أو لسياسات حكومية جائرة؛ وعادة ما تعتمد اللجان على مقاطع جدلية لمشايخ السلطان، أو صور مركبة لمشاهير، أو أخبار مضللة من مؤسسات إعلامية معنية بهذا النوع من المحتوى المخادع، وتعتمد اللجان أسلوب الصدمة بالمحتوى للجمهور الذي يجد نفسه أمام حدث مفرط في الغرابة ومثير في الوقت نفسه، فلا يملك نفسه من التفاعل مع المحتوى أو نشره، وهي اللحظة التي يتشوف لها الذباب بطنينه.

أما عن اللجان الإلكترونية التي أنشأها الاحتلال فهدفها الأول هو إثارة الفتن بين الشعوب العربية؛ فلزرع الحقد بين الأردن وفلسطين – مثلاً- تعمل اللجان على إنشاء حسابات بأسماء فلسطينية تهاجم الأردن ورجال أمنها، وفي المرحلة التالية تقوم اللجان بتضخيم التغريدات لاتهام الفلسطينيين بكره وعداء الأردن، وهكذا عندما يتابع فلسطينيٌّ ردود الأردنيين، أو أردني تعليقات الفلسطينيين، يجد نفسه مدفوعًا بحمية قبلية للدفاع عن توجهات أبناء بلده، وكلاهما يظن أن المنشورات المسيئة جاءت من الطرف الآخر، وأنه هو الذي بدأ بالاعتداء والإساءة؛ ليتبين لاحقًا أن ذلك كله كان بتدبير من اللجان الإلكترونية التابعة للاحتلال، وهو أسلوب نجح فيه الاحتلال قديمًا، ومازال يحصد ثماره حديثًا.

الدبلوماسية الرقمية عند الاحتلال

2015، هو العام الذي تنبهت فيه دولة الاحتلال لأهمية مواقع التواصل لتحسين صورتها، ونشر دعايتها المضللة، فأطلقت وزارة خارجيتها دائرة الدبلوماسية الرقمية، وهي ثاني أكبر قسم في وزارة الخارجية، وهذه تتحاشى الخوض في القضية الشائكة المتمثلة في احتلال إسرائيل المستمر لفلسطين، بينما تروّج للحياة في إسرائيل وتنسب كل شيء فلسطيني للثقافة الإسرائيلية؛ وتضم الدائرة طاقم مستشارين وموظفين يشرف على 350 قناة رقمية واجتماعية، و20 موقعًا إلكترونيًا بـ7 لغات عالمية، إلى جانب 80 موقعًا إلكترونيًا لمكاتب السفارات حول العالم. كما أنشأت سلطات الاحتلال صفحات رسمية وأخرى غير رسمية بأكثر من 20 لغة، من بينها الصفحات الموجهة إلى الشعوب العربية، بهدف اختراقها وتغيير اتجاهاتها نحو الاحتلال الإسرائيلي.

وبعد موجة إعلانات ممولة مركزة، ولجان إلكترونية تعمل بناءً على خطة استراتيجية ممنهجة، حظيت صفحات الاحتلال الناطقة باللغة العربية على مواقع التواصل بمتابعة كبيرة من الجمهور العربي، خاصة صفحات (إسرائيل بالعربية)، و(المنسق)، و(أفيخاي أدرعي)، و(أوفير جندلمان).

كما أعلنت (سابير ليفي) بفخر أنها المسؤولة عن جميع الحسابات الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية على جميع مواقع التواصل، كيف لا وهي التي تدير حسابات تهدف لخلق النعرة العنصرية عند العرب عن طريق منشورات موجهة لهم بصورة استفزازية، وتعمل من ناحية أخرى على الترويج للتطبيع والسلام مع الاحتلال.

مرحلة الفجور في الخصومة

مع حملات التوعية بدأ المتابعون ينتبهون لمصائد الذباب الإلكتروني، خاصة التابعة للاحتلال، ويتجنبون الانخراط في جداله، ومن هنا انتقلت اللجان التي تدير الذباب إلى مستوى أعلى في بث المحتوى التحريضي والأخبار المضللة، من خلال الانتشار بقوة في مختلف المواقع الإخبارية وصفحات المؤثرين، ونشر الإشاعات والفِكَر الهدامة، والزج بالمؤثرين في حرب التغريدات، والتلاعب بالصور والمقاطع وفبركة الأحداث، وشخصنة الحوار والابتزاز تارة والاتهام بالعمالة تارة أخرى، والقتل المعنوي للشخصيات، حتى وصل بهم الفحش لشن حملات تبليغ جماعية على الحسابات المعارضة لإيقافها عن المنصات أو حظر منشوراتها وإخفائها.

لماذا ينبغي ألا ترد على الذباب وعلى الرزايا؟

يقتات الذباب من تفاعل الجمهور مع تعليقاته على منشوراتك، ويكبر حسابه ويزداد تفاعلاً في كل مرة تجادله أو تناقشه على العلن، هو حرفيًا ذباب في فضاء الإنترنت بلا هوية ولا وطن ولا مكان صلب يستقر عليه، ويسعى من خلال قيئه أحادي الجانب إلى نشر الفتنة والعنصرية والطائفية بين جمهور المتابعين، أو إقناعك بالتطبيع مع المطبعين والانبطاح مع المتخاذلين والانصياع للمتواطئين.

ولأن خوارزميات مواقع التواصل مصممة على تصدير المحتوى الذي يحظى بنسبة تفاعل اجتماعي أكبر – بغض النظر عما إذا كان الرد مدحًا أو قدحًا- يسعى الذباب لاستفزاز المتابعين بعناوين صادمة في قضايا جوهرية، تخلق حالة من الفتنة بين الأطراف المتقابلة، وكل ما يهمه هو أن تصل رسائله المغرضة لأكبر عدد ممكن من النخب وعوام الناس، ممن قد يقعون ضحايا لفِكَره المسمومة.

– عندما ترد بنية الإصلاح على تعليق مسيء لذباب إلكتروني في حسابك، فأنت تصدّر تعليقه لجمهورك دون أن تعلم.

– عندما تناقش أحد الرزايا في صفحته لتغير قناعته، فأنت تدعو جمهورك لمتابعته دون أن تكون قادراً على التحكم في انجرارهم وراء أكاذيبه.

– عندما تدحض فكرة مسمومة زرعها ذباب مستقذر في منشورك، فأنت تبثها لعقول قوم آخرين ليسوا نخبًا، قد يقعون في الفخ ويقتنعون بها.

– عندما تداوم على التعليق على صفحة ناطق باسم الاحتلال بالسب والشتم، فأنت تعطي التوكيل للمنصة بأن تقترح صفحته لكل من هم في منطقتك ومحيطك الجغرافي، وربما لأجيال قادمة.

– عندما تصبح الردود بينك وبين الذباب سجالاً، فأنت وإياهم في نظر المنصة سيان، تنصح بكما معًا للجمهور نفسه، الذي سيرى مع الزمن أنكما قرنان يتناطحان، أحدكما أو كلاكما على صواب.

– عندما تتفاعل مع اللجان سيلجؤون لإغراق حسابك بالصور والروابط والمقاطع الضارة، ثم سيبلغون عنك ليثْبتوك أو يقيّدوك أو يخرجوك من الفضاء الرقمي.

– عندما تحاول فضح أكاذيب اللجان الإلكترونية، ستسعى لتحوير ردودك وحرف فِكَرك، وإعادة نشرها بأسلوب يضر رسالتك.

ما الحل؟

أنصحك ألا تتفاعل مع الذباب واللجان الإلكترونية، ليس ذلك فحسب بل احظر حساباتهم، وأزل تعليقاتهم، وبلّغ عن محتواهم، وحذّر من صفحاتهم، ولا تذر على شريطك الزمني من الرزايا أحدًا، إنك إن تذرهم يضروك، ولا ينشروا عبرك إلا فتنة وسبابًا، فحوارهم غدر وكيانهم سراب، نشر الدمار على بلدك والخراب.

خالد صافي

استشاري إعلام وتسويق رقمي

• دور سفراء القبيلة الكونية في دعم الحق الفلسطيني
• لماذا لا توجد منصة عربية رقمية منافسة؟
• لا تُسهم في تكوين الفكر الشيطاني رقميًّا
• حظر المشاهير رقميًّا طوفان جديد لدعم غزة