مالك بن نبي في سجل الكفاح الجزائري

بواسطة | مارس 10, 2024

بواسطة | مارس 10, 2024

مالك بن نبي في سجل الكفاح الجزائري

تسلط هذه المقالة الضوء على رحلة الفكر والكفاح لمالك بن نبي، مستندة إلى مذكراته المثيرة للجدل. حيث تتناول التحديات الاجتماعية والثقافية التي شكلت فكره ومواقفه، مما يسلط الضوء على تأثيره في الساحة الوطنية والإسلامية.

رحلة بين العمل الاجتماعي والتحدي الثقافي

إن فهم رحلة مالك بن نبي من واقع حياته الشخصية وكفاحه وفق ما سطره في مذكراته، ثم وعي الضغوط الشرسة التي حاصرت حياته، وبرر بها تسميته لمذكراته بالعفن، ثم كلمته المؤلمة في مغادرته الجزائر، ليست فقط وقفة تذكار لعقل استبق زمنه، وروح عربية إسلامية منفتحة بكل قوة على الضمير الإنساني المشترك، المتمرد على عالم الهيمنة الكبرى في زمن الإمبريالية الغربية المستمرة، ولكنها أيضاً مسار فكري مهم نضعه في شقين:

الأول: فهم التطبيقات الاجتماعية والسياسية التي أثرت في حياة مالك، وبالذات في عمق قضية الجزائر في تحرير الإنسان والوطن معاً، والتي تدفقت في مذكراته، وتداخلت مع رؤاه الفكرية في مشكلات النهضة وشروطها.. جزء من هذه التطبيقات عرض له بن نبي في تحريراته الفكرية، فهي إما دلالة دقيقة يستطيع أن يقف عليها الباحث بعد رحيله، حين يراجع ذلك الاستدلال فيؤكده، بعد الرجوع للتاريخ الاجتماعي السياسي للجزائر ولحياة بن نبي، في باريس وفي تبسة أو في الجزائر العاصمة، أو تنقلاته المختلفة؛ وإما أن تكون الظروف الشرسة التي عاشها – بغض النظر عن استهدافه المتعمد- قد ضغطت عليه نفسياً فانحاز لمبالغة أو كراهية، أو تعميم أو حتى استنباط ضمن رؤيته الفكرية، تجاوز الحقيقة أو المتطلب العلمي لها، ومن اليسير بمكان أن تدرك كقارئ مخلص، يحافظ على توازن وعيه المعرفي، وفرز العاطفة عن العقل، بأن انفعالات مالك بن نبي كانت كبيرة وكان دفقها على الورق واضحاً، وبالتالي يساعدك ذلك على التوقف مع رؤاه، ليس للتشكيك لحظة في نبوغه رحمه الله، ولكن لتبيان مساحة الخطأ في نظرياته.

الثاني: العودة إلى أصل مركزية فكرته، كيف يَخرج المسلمون من تخلفهم، وتحديداً كيف يتمرد العقل المسلم المعاصر على شروط الجهل والتخلف والاستعمار معاً، والتي تمثل خليطاً يساعد على تطبيع وانتشار ثقافة القابلية للاستعمار، وهي المسار المتفاعل في كل حياة مالك بن نبي، وفي نقده الشرس للحركة الوطنية في الجزائر.

ننظر إلى الحالة بشقيها، السياسي والذي يشير له أحيانا بلفظ (البولتيك)، وشقها الديني والثقافي، ودوره في أزمة العقل الوطني ثم الإسلامي العالمي، وكيف نفهم نقد بن نبي لاتجاهين مهمين أو مرحلتين، شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس، في محبته وولائه له، ولأصل الروح التي استقل بها بن باديس عن الإرث الديني الجزائري الذي ينتقده مالك بقوة، وكذلك ما جرى بين مالك بن نبي وبين العلماء بعد رحيل الشيخ بن باديس، والهيئة التي تولت قيادة جمعية العلماء بعده.

 وبالطبع فإن حضور جمعية العلماء في تاريخ الجزائر الوطني، كان حيويا وفاعلاً في تلاحمها مع جبهة التحرير، كما في تقزيمها أو حصارها من الجبهة، وما سبقها من أطر سياسية. ولذلك تبرز لدينا هنا رؤاه الحادة حول دور الجمعية في مسارين مهمين، الأول هو العجز عن النهضة بالعقلية الإسلامية، والثاني أنها استُوعبت من حركة وطنية (انحرف) بها المسار عن مفهوم الثورة الرئيسي، وعن هويتها التفاصلية، وفرطت – بحسب مالك- بمهمة الانتفاضة الفكرية للعقل المسلم، والذي يعارض بشدة أي استتباع أو توظيف أو حتى تقاطع مع المشروع الفرنسي المهيمن؛ وتؤكد مذكرات مالك بن نبي، ومجمل التاريخ الجزائري وشهوده، بأن حجم تغول باريس وأجهزتها وقدراتها السياسية والثقافية في الجسم الجزائري كان ضخماً، وكان طريق الكفاح الوطني صعباً جداً.

وهنا نستعرض بعض التاريخ الموثق من القادة الوطنيين أنفسهم، في تاريخ الثورة الجزائرية، وأقرر أولاً مقدمة مهمة:

 إن هذا العرض والاستدلال، ليس رأياً في تاريخ الحركة الوطنية الجهادية، أو الثورية السياسية للجزائر، فهذا ليس ملفّاً مخصصاً لها، هذا مسار ثقافي وفكري ضخم، تُحدد خُلاصاته دراسات واسعة، وقضية الجزائر التي أقرت مصادر باريس بأن مجمل ضحايا رحلتها الاستعمارية ليس مليون شهيد فقط، فهذا عدد ضحايا مرحلة الكفاح المسلح، بل هو سبعة ملايين ونصف مليون من البشر من مواطنيها، وهو إرث كبير.

وهذا الاستعمار كان مدعوماً باستيطان دمجي قهري، قوامه مليونان ونصف من المزارعين وغيرهم، كانوا حسب شهادة الرئيس بن بلة مسلحين، وبالتالي فنحن نستدعي هنا ما يخص رحلتنا البحثية، مع مالك بن نبي، وحملته على بعض الشخصيات التي قادت الحركة الوطنية، وليس الحكم على الثورة.

فنجد هنا أن توثيقات قادة الحراك الوطني، أكدت إشكاليات معقدة وصعبة في تاريخ النضال، شملت شخصيات مثل ابن جلول تورات عن المشهد السياسي مبكراً، ثم مصالي الحاج الذي وُرثت عنه فكرة الاستبداد، ثم تبرير الجناح الذي اغتال ابن عبان بأنه كان دكتاتوريا يقود الجزائر إلى الهاوية.

هذه التصفية في وسط الثورة الجزائرية، قال عنها أحمد طالب الإبراهيمي، القيادي المعروف في جبهة التحرير، ووزير الخارجية الأسبق، وابن الشيخ الإبراهيمي، إن تصفية ابن عبان التي رَفضها كانت بسبب خشية بعض القيادات من عودة (المصالية)، أي روح الاستبداد التي هيمنت على الحراك الوطني بقيادة مصالي الحاج، أحد أبرز من هاجمهم مالك بن نبي؛ وجاء في حديث بن بلة، الرئيس الأسبق الذي أُقصيَ بانقلاب عسكري مثّل طرفاً آخر في الجبهة، بأن ابن عبان كان يمثل الروح الفرنسية المنفصلة والرافضة للشرق.

 هنا نستدعي حملة مالك بن نبي على تلك القيادات، ومنها فرحات عباس كونه كان يمثل الروح الاجتماعية لفرنسا، حتى لو صارعها، وبالتالي استعظم احتواءه لجمعية العلماء، التي قال مالك بن نبي إنها رغم تأسيس مشروعها الوطني على هدي إسلامي مستقل، قد خضعت بعد ذلك في دمجه لابن جلول وآخرين، وهم الجناح الأبعد عن العروبة والمشرق الإسلامي، وفكر الإسلام المقاوم والمؤسس تحت الظاهرة القرآنية، التي تبناها مالك بن نبي.

كل هذه التوثيقات تحتاج إلى تحرير وندوات علمية، ربما عقدت في الجزائر أو عنها، لكننا هنا نفهم غضب مالك بن نبي، ورفضه لهيمنة هذه القوى بناءً على نظريته (النهضوية) ذاتها، وهي أن مواجهته مع ذلك الطيف من الحركة الوطنية أو الثقافة المهيمنة، هو في انفصالها عن البعث الإسلامي، واستدخالها ثقافيا ضمن مأسسة الفرنكوفونية الفرنسية، وهي تحسب على هوية الشعب المواجه للاستعمار.

 لقد كان مالك بن نبي يُصّر على أن المفاصلة مع المنظومة الفكرية الفرنسية ضرورة، ومن هنا نفهم موقفه موافقةً أو نقداً وخاصة في إشكالية تعميمه في رفض مدرستي الزيتونة والأزهر، والتي تحتاج لبحثٍ خاص يراجع رؤيته (رحمه الله) وينقدها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...