محاكمات غاب عنها القانون

بواسطة | أبريل 29, 2024

بواسطة | أبريل 29, 2024

محاكمات غاب عنها القانون

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية دار جدل كبير في مباحثات قادة الدول المنتصرة حول مصير القادة والضباط الألمان المهزومين.. الحلول التي طُرحت كانت خارج حدود المنطق، ونابعة من رغبة شديدة بالانتقام.

لعل أشهر تلك الحلول فكرة تفضي إلى جمع أهم مئة ألف ألماني أداروا الدولة في صعيد واحد، وإطلاق النار عليهم وقتلهم دون محاكمات؛ تلك الخطة كادت أن تنفَّذ، لولا أنها سُربت للصحافة وأثارت الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أفسد الخطة، ليصل الجميع إلى حل يوازن بين رغبتهم في الانتقام وحماية صورتهم الحضارية، وكان الحل بمحاكمة سميت نورنبيرغ؛ لكن الإشكالية الأولى كانت أن قوانين الدول المنتصرة لا تحقق للحلفاء هدفهم بإيقاع عقاب صارم، فلُفّقت قوانين خاصة بتلك المحكمة، وهي مخالفة صريحة للمبدأ القانوني “لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص”؛ وحتى القضاة جيء بهم من أكثر المناطق الأوروبية دماراً، ما يخلق بيئة مناسبة لتحقيق الانتقام.

لكن الوقت – كما يقال- كان كفيلا بإدراك الجميع خطأ الطريق، ذهبت سكرة التشفي وحلت محلها فكرة الهدوء، فوُضعت أسس المحاكمة الجنائية الدولية وشرائعها المنتظمة.. فماذا عن عصرنا الحديث، عصر القانون – كما يقال- والطفرة المعرفية؟ إذ طالما وصلت دول كثيرة حدّ التماهي بتطبيق وسيادة القانون.

عام ٢٠٠٣ شهدنا تجربة مشابهة في العراق.. نظام مهزوم يقبع أفراده في السجون مقابل مجموعة منتصرة ترغب في الانتقام، فكيف قام العراقيون بمساعدة الغرب في تطبيق القانون على المنهزمين؟. جزيل الخوري، مذيعة الـBBC  الراحلة، كان لها لقاء مميز مع منير حداد، نائب رئيس محكمة التمييز العراقية الكردي الشيعي؛ وبذكاء مذهل بدأت المذيعة الحلقة بأسئلة تبدو أنها عادية ولكنها ملغمة، سألته عن نظرته لصدام حسين، فأخذ القاضي يتحدث بإسهاب عن انتمائه لأسرة عانت من جرائم صدام حسين، وأنه منذ صغره يسمع عن مجازره، وكيف ألقي القبض عليه مع ١٤٠٠ شخص قتل منهم – حسب زعمه- ١٣٥٠ وأحد القتلى أخوه.. جردته المذيعة بهدوء، ومن دون أن يشعر، من سمة القاضي وحياده، وأوصلت الفكرة للمشاهدين بأنه شخص موتور وليس قاضياً يفترض تجرده من المشاعر المسبقه ضد المتهم.

 من شاهد اللقاء لا يحتاج أن يبذل جهدا كبيرا في ربط الأحداث مع تلك المحاكمة؛ صراع المتهمين مع القضاة، الذين جلهم من صنف أعدائهم (الأكراد والشيعة)، ومن خلال المحاكمات الطويلة لم يكن يخفى على أحد ما وغر في صدورهم وظهر من فلتات ألسنتهم، باستثناء بعض القضاة الذين حاولوا إضفاء الحياد على جلسات المحكمة وإعطاء المتهمين قدرا من الاحترام، ليكون مصيرهم الاستبعاد من المحاكمة. الغريب في الأمر أن منير حداد اعترف خلال اللقاء أن القانون العراقي لم يكن خادماً لهم في تحقيق الرغبة بمعاقبة المتهمين بقسوة، لذلك صيغت قواعد قانونية لتسعفهم في مسعاهم، بالتعاون مع سامي الشلبي، المحامي البريطاني ذي الأصول العراقية، وخبير قانوني أمريكي.

سألته السؤال الذي يصعب تبريره: لماذا أعدم صدام في يوم العيد؟ أخذ يتحدث في محاولة لإبعاد اسمه عن هذه المخالفة القانونية الصريحة، والمفارقة أنه وصفها بـ”ليلة العيد”، بعدها انهارت قوى تبريراته ليتحدث بصراحة متناهية عن ما حدث، إنه في منتصف ديسمبر مع قرب نهاية عام ٢٠٠٦ سمع تصريحا لرئيس الوزراء نوري المالكي، يعد فيه العراقيين بتنفيذ حكم الإعدام في صدام قبل نهاية هذه السنة، وطلبني المالكي بعدها بيوم لمقابلته، فذهبت إليه وقلت له إن حكم الإعدام الصادر بحق صدام يستحيل أن ينفذ في غضون أسبوعين، الأمر يحتاج خطوات أولها تصديق محكمة التمييز، ثم إجراءات أخرى قد تستمر لأشهر، فطلب مني المالكي العمل على التصديق على أن يتكفل ببقية الأمور. يقول إنه قام بتنفيذ الأمر وجمع أعضاء المحكمة التسعة، وضغط على بعضهم وتم التصديق على الحكم بسرعة كبيرة بأغلبية سبعة أعضاء، أما الاثنان المتبقيان فـ”هربا” ولم يصدقا على الحكم.. هنا اتوقف مندهشا! استخدم كلمة “هربا” بحق شخصين حافظا على وقارهما القضائي والقانوني، ولم يخضعا لأوامر رئيس وزراء أراد الانتقام باستخدام السلطة القضائية.

عرضت عليه المذيعة فيديو لعزت الشابندر، وهو من أهم المقربين للمالكي، يتحدث فيه عن سبب استعجال الإعدام ليتوافق مع يوم العيد بالصدفة – كما زعم- وليس بسبب نزعة انتقامية، حيث قال الشابندر إن الأجهزة الأمنية اكتشفت خطة خليجية أمريكية  لتهريب صدام، وإن المالكي بعدها تواصل مع الرئيس بوش الذي حثه على التنفيذ بالسرعة الممكنة.. نفى منير حداد هذا الكلام، وقال إن الخليجيين أقفلوا الأبواب مع المالكي ولا يريدون الحديث معه، ليقول منهياً الإجابة عن هذا السؤال: إن المالكي أراد تحقيق عمل بطولي لطائفته الشيعية بإعدام صدام يوم العيد، من دون أي اعتبار للأمور الأخرى جميعها، فكان تنفيذه في يوم العيد بحضور ١٤ شخص كلهم من أعدائه في حزب الدعوة الشيعي.

أما فيما يتعلق بالعبث بجثة صدام بعد الإعدام، فقد حاول أن ينفي ذلك الأمر، وقال إن من قام بذلك أبناء عمومته لثأر قديم بينهم، ولكنه قال في ختام هذه الجزئية إن رئيس عشيرة صدام استلم الجثة بعدها من منزل نوري المالكي، ليفوّت على المذيعة هنا أن تسأله عند هذه النقطة – إن كان ما قاله صحيحًا- من سلم الجثة لأعدائه لينتهكوا حرمة الميت؟ ولماذا أُخذت إلى بيت المالكي؟. عموما، ذكرت وسائل إعلام أمريكية أن الجثة لم تؤخذ إلا إلى بيت المالكي، ليرقص الجميع ويضحكوا بتشفّ وشماتة أمام جسد غاب عن هذه الحياة الدنيا.

نسلط الضوء على شخصية قانونية أخرى.. المدعي العام (جعفر الموسوي) في برنامج آخر ذكر أنه كان في الحج حين إعدام صدام حسين، وقبل الإعدام بيوم تلقى اتصالا من عادل عبد المهدي، نائب رئيس الوزراء، الذي طلب منه أن يبتعد عن كل من حوله ليتحدث معه في موضوع غاية في الأهمية، قال له: “الحجي” يريد أن يعدم صدام غدا، ما رأيك؟ ويقصد بالحجي نوري المالكي رئيس الوزراء.. يقول: كانت إجابتي “لا يمكن القيام بهذا العمل لوجود حائلين قانونيين، الأول أنه يوم عيد والقانون يمنع تنفيذ حكم الإعدام في يوم عيد لدين المحكوم عليه بالإعدام، والثاني أن محكمة التمييز صادقت على القرار منذ ثلاثة أيام فقط، والقانون يحظر التنفيذ إلا بعد مرور ثلاثين يوما على ذلك التصديق”.. يقول: أغلق السماعة ثم عاود الاتصال ليقول لي إنه تواصل مع أحد كبار أساتذة اللغة العربية في جامعة بغداد، وأخبره أن كلمة “بمرور” تعني خلال.. ضحك المذيع وقال له: ما دخل أستاذ اللغة العربية في هذه القضية، فرد الجعفري متهكماً: وأنا مثلك، ولكني أخبرك بما حدث بالضبط.

عوداً على بدء، ما حدث في محاكمة نورنبيرغ، وما حدث في محاكم بغداد، أبعد ما يكون عن القانون، شريعة غابٍ بصورة رسمية، لا نقولها دفاعاً عن صدام، فلو كانت محاكمته عادلة فربما سيجد المصير نفسه، لكن ليس وحده، سوف يكون بجواره على منصة المشنقة كثير من جلاديه الذين يتنعمون اليوم في قصور بغداد، لم تكن تلك المحاكمة ضد شخص أو مجموعة أفراد، بل مرحلة دموية كان عنوانها الرئيسي تلك الأحداث.

ختاماً.. صحيح أن محاكم نورنبيرغ ومحاكم بغداد كانت مليئة بقضاة ومحامين ومدعين عامين وكذلك مدّعي حق مدني، ونُقلت أحداثها إلى العالم عبر وسائل الإعلام، ولكن.. كان الغائب الوحيد عنها هو “القانون”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...