هذه محاولة متواضعة من شخص متواضع  لتشخيص المشكلة

بواسطة | مايو 29, 2024

بواسطة | مايو 29, 2024

هذه محاولة متواضعة من شخص متواضع  لتشخيص المشكلة

هناك أبعاد مهمة في النظر إلى القضية الفلسطينية، في الجغرافيا والتاريخ، وفي اتجاه البوصلة.. كيف يمكننا أن نرى تلك الأبعاد؟.

في الجغرافيا، كانت القضية إسلامية، ثم عربية، لتصبح بعد ذلك فلسطينية، وأخيراً هي تخص منظمة فتح وحدها، لتختزل في صورة شخص واحد هو “ياسر عرفات” وهو يوقع اتفاقية أوسلو، فيكون من آثار تلك الاتفاقية الاعتراف بالوجود الصهيوني في فلسطين التاريخية – أو فلسطين ١٩٤٨- وكأن وعد بلفور حق أُقرَّ به، وهذا بلا شك أمر يتجاوز القانون بمراحل كثيرة. يقول الفقيه القانوني (بروني) من جامعة أكسفورد عن مشروع تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧ بين اليهود والعرب، إن المنظمة الدولية لا تملك الاختصاص القانوني بتقسيم الأراضي ونقل الشعوب، الحديث عن منظمة دولية فما بالك بما دونها من دول أو أفراد؟.

أما في التاريخ، فهناك محاولة مستميتة من قبل الإعلام الإسرائيلي والغربي المتعاطف مع الاحتلال، لجعل تاريخ السابع من أكتوبر هو أساس الحدث، على غرار حادثة بل هاربر أو حادثة مقتل ولي عهد النمسا، اللتين أشعلتا الحربين العالميتين.. كل التواريخ بدءا من نهاية القرن التاسع عشر وحتى السابع من أكتوبر أُلغيت! هناك حقيقية لا بد أن تستقر في نفوسنا، تتمحور في أن السابع من أكتوبر ليس بداية الحريق، ولكنه جزء من ألسنة النيران التي أشعلها الآخرون ضد الفلسطينيين.

أما عن اتجاه البوصلة، فقد استُخدم اسم فلسطين من قبل أشخاص في دول ومنظمات ومليشيات لتدمير حواضر ومدن، ووصل بهم الأمر إلى جلب غزاة لقتل شعوبهم، واستُخدم الاسم كذلك لتبرير علاقات التطبيع مع الكيان الغاصب، ليقولوا إنها معاهدات ستذهب لصالح الفلسطينيين.. كلام يكذبه الواقع المرير والتاريخ الصريح! الصهيوني بن غوريون، وهو الزعيم التاريخي والذي يوصف هناك بأنه أحد الآباء المؤسسين، قال في بداية الخمسينيات إن وضع وجود العرب لم يُحسم داخل إسرائيل، ولكن نحتاج حروباً ليكون لدينا مسوغات قانونية لتهجيرهم.

وهناك أيضا تصريح آخر لـ”إسحاق شامير”، رئيس وزراء إسرائيل في مؤتمر السلام في مدريد عام ١٩٩١، إذ قال بكل وضوح وصراحة أمام رؤساء الوفود العربية: “إن القضية ليست الأرض بل وجودنا، وسيكون من المؤسف أن تتركز المحادثات على الأرض، سنذهب بذلك إلى طريق مسدود، نحن نقدم الثقة مقابل السلام”؛ ليضيف بعد ذلك كلاماً في غاية الأهمية والخطورة، فيقول: “نحن نسيطر على ثمانية وعشرين ألف كيلومتر مربع فقط، بينما يسيطر العرب على مناطق تبلغ 14 مليون كيلومتر مربع”.. أهمية هذه الفقرة في خطابه أنه ألغى وجود الأرض العربية، أو ما يسمى بقطاع غزة والضفة، وهي أراض عربية معترف بها في الأمم المتحدة.

 في الغرف المغلقة استخدم الاسم بما لا يليق به، يقول “ريتشارد هاس” في مذكراته، وكان يشغل منصب المسؤول للشؤون الخارجية في الإدارة الأمريكية، إنه بعد فشل تمرير قرار غزو العراق في مجلس الأمن عام 2002، ذهب مع وفد إلى المنطقة لإقناع الدول بمشروع غزو العراق والإطاحة بنظامها، ليجيبه أحد كبار المسؤولين العرب (لم يسمه) ويقول له: “أتمنى أن أكون معكم على ظهر أول دبابة لغزو العراق وإسقاط نظامها، وأنصحكم بفعل شيء ما للقضية الفلسطينية قبل ذلك لتهدئة الشعوب”.. تلك العبارة تبين كيف أن بعض الناس يرى ذلك الاسم السامي وسيلة أو مبرراً للتغطية على حماقة مثل غزو العراق، وما سوف تخلفه من آثار مريرة من دماء وخسائر عمرانية وسياسية. ونذهب إلى توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق وهو يقول إن المسؤولين العرب يكرهون إسرائيل بالتأكيد، ولكنهم ممتنون لها في صرف أنظار شعوبهم عن مطالبتهم بإصلاحات داخلية.

تلك الأبعاد تذهب بنا إلى المشروع الذي رعاه الغرب لحماية طفلته المدللة إسرائيل.. بعد الحرب العالمية الأولى، ومع اقتراب إعلان ولادة ما يسمى بدولة إسرائيل، قام الغرب بتهيئة كل الظروف لتلك المرحلة؛ تعامل مع المنطقة كما يتعامل الطبيب حين يخفض مناعة الإنسان وهو يقوم بزراعة عضو جديد في جسده، ولتثبيت وجود هذا الكيان لم يجد أفضل من سلاحي الخداع والاستبداد.

الخداع صوره كثيرة، وأشهرها تجسد في الثورة العربية التي كان من نتائجها اتفاقية “سايكس بيكو”، التي قسمت الدول العربية بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني؛ الصورة الأشهر لمرارة خيبة الأمل هي للملك فيصل بن الحسين، وهو يجلس بجانب حقائبه في إحدى المحطات بعد زوال ملكه في سوريا، لتقلّه الحافلة إلى أحد الموانئ، وتذهب به السفينة إلى لندن.. حاول في زيارته إثناء جورج لويد، رئيس وزراء بريطانيا عن ما عزموا عليه، وذكر أن تضحياتهم في ثورتهم لا يجب أن تقابل بفكرة استعمارية، لكنه في نهاية ذلك اللقاء أدرك أن القوم عازمون على ما اتفقوا عليه، فقال للويد قبل أن يغادر مكتبه وهو غارق في الإحباط: “حتى العبيد في القرون الوسطى يؤخذ رأيهم في البيع لسيد جديد، حتى هذا الحق لم نحصل عليه”! يقول فواز طرابلسي في كتابه “سايكس بيكو والخرائط”: إن لورنس العرب، وهو مهندس الثورة العربية، رفض قبول وسام من الملك جورج الخامس، بسبب إفراطه في الكذب على القبائل العربية خلال عمله.

أما مشروع الاستبداد، فيتمثل في رعاية المخابرات الأمريكية لأول انقلاب في الوطن العربي في سوريا عام 1949، أي بعد سنتين من إنشاء وكالة المخابرات الأميركية. الدولة الديمقراطية الأولى – كما تدعي- أصبحت الراعي الرسمي للانقلابات وإيصال السلطة العسكرية للحكم في عدد من الدول.. في كتابه “لعبة الأمم” يقول مايلز كوبلاند، وهو عضو مؤسس في المخابرات والراعي الرسمي لانقلاب سوريا: “عندما تتعارض الأخلاق مع مصالحنا فإن الخسارة ستكون بالتأكيد من نصيب الأخلاق”! وتتوالى تلك الانقلابات في إيصال المؤسسة العسكرية إلى مقاليد الأمور. واليوم، وأنا أكتب ما أكتبه، أرى تلك الدول التي شهدت انقلابات عسكرية بوعود معسولة من قادة الانقلابات بالتحرر، أراها دولا فقدت سيادتها السياسة، أو تحت الاحتلال، أو على شفا انهيار اقتصادي.

هنري كيسنجر في أول زيارة له إلى المنطقة خالجه شعور بالقلق من تلك الزيارة بسبب يهوديته، لذا  طلب تقارير عن المنطقة من فريق عمله، استوقفه تقريران؛ الأول باسم “الخيمة”، حيث ذكر أن كل الصلاحيات توجد لدى شخص واحد هو رئيس الدولة، يجب أن يكون تركيزك عليه؛ والآخر باسم “السوق”، وفيه أنك ستجد معارضة لطلباتك لأسباب سياسية أو أيديولوجية أو دينية، ولكن ضع نصف السعر وستجد من يبيعك.. تقريران استوعب مضامينهما شخص أصبح هو المسؤول والمحرك  لكثير من الأمور في المنطقة، منذ أن وطئت قدمه أرض الشرق الأوسط لأول مرة.

لنذهب قليلاً إلى لأمام.. يقول أحد أعضاء الوفد الأمريكي في معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل: حين نقوم بعرض النقطة على الوفد الإسرائيلي ينشغل الجميع في النقاش، وتذوب الفوارق، لا يوجد تميز بروتوكولي بين رئيس الوزراء وبين صاحب أصغر منصب في الوفد، يعلو الصراخ في الجناح، ونجد صعوبة في تمرير القرار وسط الضجيج من الأفكار والاقتراحات؛ وإذا ذهبنا للجانب المصري سنحصل على ما نريد بهدوء بمجرد أن ينفخ الرئيس (أنور السادات) غليونه، وقبل أن يصل الدخان إلى سقف الغرفة.

هناك أثر مهم لذلك الاستبداد، يتجلى في لغة الحوار داخل المجتمع الواحد؛ أصبحنا نرى الرأي المخالف يصنَّف على أنه مزاحمة على السلطة، وفُتحت من أجله السجون وأُشغل القضاء بكثير من القضايا، الحرب الداخلية تلك جزء من أسباب شلل المجتمعات، السلطة تملك القوة، والمعارضة – وخاصة ذات الخلفية الإسلامية- تملك مكانة لا يستهان بها في الشارع، تلك المعادلة تجعلنا ندرك استحالة حسم ذلك الصراع لأحدهما إلا بالحوار، وخاصة مع ظهور نتائج أول انتخابات عربية حقيقية، حيث فاز الجانب المُحارَب ووصل إلى السلطة، ليتم الانقلاب على خيار الصندوق، ويعيش المجتمع واقعا مؤلما حين تكون الإصبع على الزناد طوال الوقت خوفاً من شريك آخر في المجتمع. الغريب أن الأنظمة تتفاوض مع إسرائيل وتقدم لها الكثير من التنازلات والإغراءات، أما شريكها في الوطن فليس له إلا فوهة البندقية والسجون المظلمة.

لذا، جزء مهم من إشكاليتنا في مدى تقبلنا للقانون على أنه المسير للجميع، القانون الذي يفتخر به الغرب، ولكنه أحيانا يرميه في مكب القمامة حين لا يتوافق مع مصالحه ورغباته، هناك الكثير مما يُقال في هذا الجانب ولكن أكتفي بهذه المعلومة القانونية التاريخية.

تقدمت إسرائيل عام 1949 بطلب للانضمام للأمم المتحدة، وقوبل ذلك الطلب بالرفض الدولي لثلاثة أسباب؛ عدم نية إسرائيل وضع القدس تحت الإشراف الدولي، وقضية اللاجئين، والاعتراف بالدولة العربية. بعدها تقدمت مرة أخرى متعهدة بتنفيذ القرار الدولي بوضع القدس تحت الإشراف الدولي، والتعهد بعودة اللاجئين والتعويض العادل لمن لا يرغب بالعودة، وأخيراً الاعتراف بالدولة العربية في أراضي 1967. على أثر ذلك تمت الموافقة على انضمامها.

 في القانون، لا يسري العقد المعلق بشرط إلا بتحققه.. هذا الأمر يعطينا إيضاحاً من جانبين: الأول أن عضويتها في الأمم المتحدة منذ انضمامها باطل لعدم تحقق الشرط، والآخر، أن صراعها في غزة هو صراع دولي بين دولتين ينطبق عليهما كل مواد اتفاقية جنيف في التعامل بين أطراف الصراع، وليس – كما تريد أن تصوره- صراعاً داخلياً، أو شيئاً آخر تُظهره باستحداث فكرة جديدة، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في حربها في أفغانستان، حيث صنفت حربها تلك على أنها ضد ميليشيات غير شرعية، ليسهل عليها تجاوز كل القوانين والأعراف، والتفلّت من كل الاتفاقيات الدولية. لذا نجد القوانين لدى أمريكا وإسرائيل مثل صندوق تفاح، تأخذ منه ما تريده وتترك ما لا يروق لها! والأهم أن الاعتراف الدولي بدولة فلسطين لا يستحق هذه الحفاوة التي نراها اليوم فحسب، بل اللوم كل اللوم لتأخره أكثر من سبعين سنة.

ختاماً، منذ سنوات طويلة لم يمر العالم الإسلامي بهذه الحالة، رغم جسامة ما يحدث اليوم، لكنها تحل وسط صمت مطبق رسمياً وشعبياً. وكون ردود الأفعال دون مستوى الجرائم هو دليل على الوصول إلى مرحلة متقدمة من “الاستبداد”، تأكيد ذلك هو منع الشعوب من لغة الاحتجاج من خلال القنوات القانونية والشرعية.. هناك خوف شديد من انفجار الوضع، وأغرب صورة في المشهد واقع طلبة الجامعات – وهم بالملايين في العالم العربي- إذ يشاهدون خلف الشاشات حراك زملائهم في جامعات أوروبا وأمريكا، والقانونيون العرب – وهم بأعداد كبيرة- يراقبون دفوع المحامين من جنوب أفريقيا في المحكمة الجنائية، يصفقون لغرباء يدافعون عن قضيتهم العادلة، وهم لا حول لهم ولا قوة في ذلك الحراك القانوني الشرعي.

بالتأكيد ليست سلبية، ولكنها مرحلة متقدمة جداً من الخوف من التسلط والاستبداد، وردود أفعال السلطة التي لا يمكن توقعها تجاههم! الإجابة على هذه الحالة نجدها في كتب علم الاجتماع.. علي الوردي، في الرد على سؤال من صحفي عن سبب عدم إخراج آرائه وهو في منتصف العقد الثامن، ويُفترض أنه في هذا العمر يتجرد من الخوف حتى لو كانت السلطة مستبده، يجيب قائلاً: كيف لا أخاف من أشخاص خائفين؟ إن ما يجعلك تشعر بالاطمئنان هو حالة واحدة، لا يكون فيها الذين يقررون مصيرك في حالة شعور بالضعف والخوف، أما إذا كانوا تحت وطأة هذا الشعور، فإن قسوتهم في الرد عليك هي أكبر من أن تكون موضوع قياس أو تحديد.

1 تعليق

  1. Sanaa El Younoussi

    قراءة ممتازة لحاضر و تاريخ الصراع

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...