مناظرة خليل الله إبراهيم (عليه السلام) مع أئمة الإلحاد وعبدة الطبيعة

بواسطة | أبريل 18, 2023

بواسطة | أبريل 18, 2023

مناظرة خليل الله إبراهيم (عليه السلام) مع أئمة الإلحاد وعبدة الطبيعة

من القصص التي خلد القرآن الكريم ذكرها، حوار إبراهيم عليه السلام مع قومه من عبدة الأوثان والكواكب؛ إذ بينت آيات كريمات من سورة الأنعام، كيف ناظر إبراهيم قومه وجادلهم؛ ليبين لهم بطلان ما كانوا عليه من تقديس للنجوم وعبادة لها، بسبب اعتقادهم أنها آلهة تؤثر في الحوادث الحاصلة في الأرض، وعرف عن إبراهيم -عليه السلام- أنه كان في مناظرته لخصومه ومجادلته معهم، يلجأ إلى الأسلوب الواقعي العملي؛ ليشد أنظارهم إلى الحقيقة ويجعلها قريبة محسوسة منهم، وهاهو -عليه السلام- عندما أراد أن يبين لقومه عجز النجوم وضعفها، وأنها مخلوقة كسائر المخلوقات لا تستحق أن تعظم وتعبد، انتظر حتى أقبل الليل وظهرت النجوم تلمع في ظلامه. (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 2/465).
وافترض إبراهيم -عليه السلام- افتراضا لا يؤمن به ولا يتماشى مع الحقيقة؛ افترضه ليقود الخصم إلى الصدق الصادق والحق الواضح، فجلس مع هؤلاء الذين يعبدون الكواكب، وربما كانت الجلسة في معبدهم الذي يجتمعون فيه، إذا أمسى المساء يتطلعون إلى الكواكب في صورة شاعرية، وفي نوع من التأمل في هذه الكائنات الظاهرة الخفية، الواضحة المجهولة التي يرونها مضيئة لامعة، ولكنها مقنعة لا تبدى أسرارها ولا تعلن عن خفاياها، وأمسى المساء وبدأت النجوم والكواكب تظهر في السماء، وشرع إبراهيم -عليه السلام- في مناظرتهم بعقل وذكاء وحرص على هداية قومه لتوحيد الله عز وجل، فقال الله سبحانه وتعالى في شأن ذلك: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين* فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [سورة الأنعام: 76-79] (قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص114).

المعبود الذي يدعو إبراهيم -عليه السلام- إلى عبادته يستحق وحده أن يعبد بحق، ذلك أنه هو الذي فطر مخلوقات تكبر في عين الإنسان وهي السماوات والأرض، أي أنه أبدع الكون كله من عدم ودون سابق مثال

قوله تعالى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام:79].
إن مثل هذه الآيات لا تحتاج إلى شرح كبير، ذلك أن المعبود الذي يدعو إبراهيم -عليه السلام- إلى عبادته يستحق وحده أن يعبد بحق، ذلك أنه هو الذي فطر مخلوقات تكبر في عين الإنسان وهي السماوات والأرض، أي أنه أبدع الكون كله من عدم ودون سابق مثال، وهو بذلك القادر على تصريف ما في هذا الكون، يعلم فيه ما ظهر للناس وما بطن، وكلمة ملكوت تشير إلى ما وراء هذا الكون من عالم الغيب، هذا العالم الذي يطلع الله المصطفين من عباده على بعض ما فيه من الأسرار، إنه -سبحانه وتعالى- رب كل شيء، ووسع كل شيء علما. (وإبراهيم الذي وفى، د. فرحات بن علي الجعبيري، ص78)
منهجية التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام:
نستخلص من الآيات السابقة المنهج الدعوي المتدرج الذي اتبعه إبراهيم -عليه السلام- مع قومه عبدة الكواكب، فقد تدرج بهم من الكواكب إلى القمر، ثم إلى الشمس التي هي أكبرهم، ويؤكد الرازي: إن الأخذ من الأدون فالأدون مترقيا إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان، والتأكيد لا يحصل من غيره، فكان هذا الوجه أولى. (منهجية التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام ص274)
وقد مرت منهجية إبراهيم -عليه السلام- بمراحل وتدرج مع قومه، ومن ذلك:
مجاراة الخصم:
استمال إبراهيم قومه وأخذ بقلوبهم وأشعرهم أنه غير متحامل عليهم، ويسمى هذا الأسلوب “مجاراة الخصم”، وقد استطاع أن يصل بقومه إلى زيف عبادة الكواكب والقمر والشمس، لأنها جميعها تتصف بالأفول، فالآلهة التي مصيرها الأفول متغيرة من حال إلى حال، متنقلة من مكان إلى مكان، فلا تستحق أن تعبد.
تشكيك قومه في معتقداتهم:
استطاع إبراهيم -عليه السلام- أن يشكك قومه في معتقداتهم المتعلقة بعبادة النجوم والكواكب، من خلال تلك الأسئلة المثيرة للعقل، وشككهم في صلاحية الكواكب والنجوم للربوبية، وهيأ قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب، ثم عرض بقومه أنهم ضالون وهيأهم قبل المصارحة للعلم بأنهم ضالون، وأدخل في نفوسهم الشك مرة أخرى في معتقدهم أن يكون ضلالا، وأن يكونوا قوما ضالين. وبعد أفول الشمس قال لهم: {إني بريء مما تشركون}، وهذا إقناع لهم بأن لا يحاولوا موافقته إياهم على ضلالهم؛ لأنه لما انتفى استحقاق الربوبية عن أعظم الكواكب التي عبدوها، انتفى عما دونها. (منهجية التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام، ص273)

أولئك القادة العظام هم رسل الله تبارك وتعالى إلى الناس لهدايتهم، وتعريفهم بحقيقة وجودهم، وأن سبب خلقهم هو عبادة الله وحده، وهذه هي الحقيقة والقول الفصل، وجوهر وقيمة الرسالات السماوية والدعوات التوحيدية.

الاستدلال المنطقي:
استدل إبراهيم -عليه السلام- بأفول الكواكب والقمر والشمس على أنه لا يجوز أن تكون أربابا مستحقة لأن يشتغل المرء بعبادتها وشكرها؛ وتدل غيبوبة الكوكب والقمر والشمس على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد، وعلى عدم استحقاق الإلهية؛ لأن شأن الإله أن يكون دائم المراقبة، لتدبير شؤون عباده، وقد بدأ معهم في المناظرة بالسهل، ثم تدرج من الكواكب إلى القمر إلى الشمس، والنتيجة واحدة؛ فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج.
إعلان الوصول إلى النتيجة:
من خلال الحجة المستنبطة من أحوال هذه الموجودات جميعا، وأن أفولها دل على وجود خالق لها وصل إبراهيم -عليه السلام- بقومه إلى النتيجة الحتمية، وهي: البراءة من الشرك، وأن يعبد خالق السماوات والأرض. فقال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام:79].
إن أولئك القادة العظام هم رسل الله تبارك وتعالى إلى الناس لهدايتهم، وتعريفهم بحقيقة وجودهم، وأن سبب خلقهم هو عبادة الله وحده، وهذه هي الحقيقة والقول الفصل، وجوهر وقيمة الرسالات السماوية والدعوات التوحيدية. وفي سبيل هذه الرسالة السامية استطاع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يواجهوا الكفر والإلحاد بالحجج العقلية والمنطقية، ورجاحة العقول التي أيدهم الله بها. وبعد أن عرض الله سبحانه وتعالى حوار إبراهيم مع قومه، ذكَّرنا سبحانه بهذه النعمة، وأن الحجة التي استعلى إبراهيم بها على قومه هي محض فضل من الله سبحانه، فقال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} [الأنعام:83]
1- في قوله تعالى: {وتلك حجتنا}:
جاءت الإشارة للبعيد، والظاهر شمولها احتجاجه على من ناظرهم، فإنه حاجهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، وبعد ذلك انتصر بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان، وكذلك أقام الحجة على والده.

إن الله تعالى أقام الحجة على قوم إبراهيم -عليه السلام- بنبيه الكريم ورسوله العظيم، فأمده بقوة في شخصيته كمحاور بارع ومناظر مفحم

2- وقوله تعالى: {آتيناها إبراهيم على قومه}:
إن الله عز وجل اختار إبراهيم -عليه السلام- لتقوم به الحجة؛ لأنه لم يخلق الناس في الفكر والعلم على سواء، فمنهم الهادي المرشد، الذي اختاره الله تعالى ليكون رسول الحق إلى الناس ورسوله إليهم؛ ومنهم الضال الذي يطلب الهداية، ومنهم من أركس في الشر، وختم الله على بصيرته وسمعه وبصره، فلا يدرك حقا ولا يستمع لداعي الحق. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 2/202).
3- وقوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء}:
قال الشيخ الإمام محمد أبو زهرة: (الدرجات) المراتب العالية في الهداية والتوفيق، وعبر سبحانه وتعالى بالفعل المضارع {نرفع}؛ لتجدد الرفعة المستمرة، فالوجود الإنساني يستمر الخير فيه بوجود الهداة المرشدين والمستمعين الأخيار الذين يستمعون فيقولون سمعنا وأطعنا، وبجوار هؤلاء أولئك الذين يستمعون طيب القول فيقولون سمعنا وعصينا، وبذلك يتفاعل الخير والشر في هذه الحياة، وسبق بيان العاقبة للمتقين. قال تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب} [البقرة:269]. (زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، 5/2572).
4- {إن ربك حكيم عليم}:
فالله عز وجل حكيم يضع كل شيء بميزان، عليم بكل شيء وله فيما يشاء ويختار الحكم والعبر البالغات.. تبارك الله رب العالمين.
إن الله تعالى أقام الحجة على قوم إبراهيم -عليه السلام- بنبيه الكريم ورسوله العظيم، فأمده بقوة في شخصيته كمحاور بارع ومناظر مفحم، كما رزقه الله قوة في حججه وبراهينه، التي حقق بها انتصارات متوالية على كبار قومه وسادتهم..
 
 
– ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “إبراهيم عليه السلام خليل الله” للدكتور علي محمد الصلابي.
 المراجع:
• التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، نخبة من كبار علماء القرآن وتفسيره بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم، كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، جامعة الشارقة، الإمارات العربية، 2010م.
• وإبراهيم الذي وفى، د. فرحات بن علي الجعبيري، المكتبة السعيدية للنشر، مسقط، سلطنة عمان، ط2، 2014م.
• منهجية التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام، د. أمينة محمد.
• أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...