نحن بشر، لكن السفاحين ليسوا كذلك

بواسطة | أبريل 4, 2024

بواسطة | أبريل 4, 2024

نحن بشر، لكن السفاحين ليسوا كذلك

في إحدى غرف مستشفى الشفاء، بقطاع غزة، خاطبني الجراح الذي يعمل هناك واسمه “جمال” قائلا: “ما رأيك في أن تجمع عددا من القطط الناعمة الصغيرة، وتضعها في صندوق من الكرتون، ثم أَحْكِم غلقه، ضع الصندوق أرضا، واجمع قوتك، فاقفز بكلتا قدميك فوقه، ولا تتوقف قبل أن تتأكد من طحن عظامها الرقيقة، وتستمع بأذنيك لأصوات المواء المكتوم؟”.. كنت أُصغي إلى حديثه، وأنا مُتسمر في مكاني، وعيناي جاحظتان نحو صندوق كبير ملطخ بالدماء، وضعه المُمرض أمامي.

أضاف جمال: “التقط صورا لتلك القطط المقتولة، وأرسلها لكل وكالات الأنباء، أخبرهم بأنها من غزة، وحاول أن تتخيل ما قد يحدث بعدها، لو تم توزيع تلك الصور ونشرها عالميا؟!”.. ثم تابع: “حتما سيشتعل غضبٌ عارم لدى الرأي العام، والذي هو بالتأكيد ناجم عن دوافع أخلاقية، سيُنصت العالم كله لأصوات احتجاجات العاملين في جمعيات الرفق بالحيوان، وتنديدهم بالحادث الأليم”.

عند تلك اللحظة، فتح “جمال” الصندوق، فكاد قلبي أن ينخلع من مكانه حينما ظهرت محتوياته، وإذ بها أطراف مبتورة.. هذه يد، وهذا ذراع، وهذه أرجل مقطوعة، إنها أعضاء بشرية!. نظر جمال إلى عيني، وقال في أسى: “هذه الأعضاء التي بُترت أُصيبت في قصف مدفعي، استهدفت به قوات الاحتلال الإسرائيلي مدرسة الفاخورة في مُخيم جباليا، حاصرت إسرائيل مئات المدنيين الذين هربوا من منازلهم وتحصنوا في مدرسة تابعة للأمم المتحدة، أطبقت عليهم وكأنهم في صندوق، كان من بينهم عشرات الأطفال الصغار، وبينما اعتقد الجميع أنهم في أمان، قامت إسرائيل بسحقهم عبر قنابلها المدفعية، فماذا كان رد فعل العالم؟! لا شيء، لا شيء على الإطلاق، كان من الممكن أن نكون أفضل حالاً، لو كنا قططا أكثر من كوننا فلسطينيين”.

هكذا روى الصحفي والناشط الإيطالي “فيتوريو أريغوني” أحداث تلك القصة المفجعة، في كتابه “غزة، حافظوا على إنسانيتكم” والذي قام بتضمينه مذكرات حقيقية للأحداث التي عاشها داخل قطاع غزة، أيام حرب “الرصاص المصبوب” في يناير 2009، والذي بدأه بمقدمة كتب فيها: “هذا الكتاب، تجدون فيه قصة المذبحة التي استمرت لمدة ثلاثة أسابيع، وقد كتبتها على قدر استطاعتي، ففي معظم الأحيان كانت الظروف صعبة وتتسم بعدم الاستقرار، كثيرا ما كنت أخربشها على صفحات دفتر ملاحظات مهترئ، بينما أكون جاثما في سيارة إسعاف تطلق صفارتها في أسفل الشارع، أو أنقُرها بشكل مسعور على لوحة مفاتيح أي جهاز حاسوب متوفر لدي، وغالبا داخل أحد الأبنية المترنحة كبندول مجنون من شدة الانفجارات الشاملة التي تقع حولنا”.

كما نوه المؤلف في مقدمته قائلا: “من الواجب علي تحذيركم، بأن الغوص في هذا الكتاب قد يكون محفوفا بالمخاطر، فهذه الأوراق مؤذية ومُلطخة بالدماء، كما أنها مُشبَّعة بالفوسفور الأبيض، وهي حادة مثل شظايا قنبلة، وإذا قرأتموها في هدوء غرفة نومكم، فإن جدرانكم ستهتز بفعل صرخاتنا التي سبَّبَها الرعب، إنني أشعر بالقلق على شغاف قلوبكم التي أعترف أنها لم تصبح حتى الآن عازلة لأصوات الألم”.

هذا الكتاب الفريد، والذي يسرد بعضا من مآسي قطاع غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي، وقصة الجرَّاح الفلسطيني “جمال” الذي يعمل في مستشفى الشفاء، كان أول ما تبادر إلى ذهني فور سماعي أخبار المجزرة الأليمة، التي صُدم العالم بمشاهدها عقب انسحاب قُطعان الجنود الصهاينة من مستشفى الشفاء، بعد اجتياحه وتدميره واحتلاله لأيام، حيث عرفنا بخبر اغتيال عشرات الأطباء والمرضى والعاملين بالمشفى، وشاهدنا صور الجثث التي جرفتها ودهستها الجرافات، فرأينا الجثامين التي تحولت إلى ما يشبه قطع العجين المفرود، ورأينا أعضاء بشرية تناثرت أرضا، بفعل آليات متوحشة عبثت بالمكان، وتابعنا لحظات انتشال الجثامين التي تحللت داخل منازلها في محيط مجمع الشفاء، بعد أن منعت إسرائيل قوات الدفاع المدني من الوصول إليها؛ واستمعنا إلى الناطق باسم الدفاع المدني الفلسطيني، وهو يعلن بأن جيش الدولة العبرية قد أعدم مواطنين وهم مكبلون بالأصفاد، كما عذب العشرات، وبلغ عدد القتلى ما يقرب من 300 شهيد.

الواقع وصفه الصحفي “خضر الزعنون”، الذي يعمل لدى شبكة CNN الأميركية، بأنه أشبه بفيلم رعب ولا يمكن أن يكون حقيقيا، فالجثث متناثرة في كل مكان، ومن نجوا من المجزرة كانوا يعانون من سوء تغذية رهيب، حيث كان يتم إعطاؤهم زجاجة مياه واحدة يوميًا، يتقاسمها ستة أشخاص.

عادت مجددا تلك التساؤلات التي تنخر في عقلي منذ بداية تلك الحرب وما قبلها: لماذا لا ينتفض العالم أمام تلك المشاهد المفزعة وهذه الأحداث؟! لماذا لا نجد مطالبات حقيقية وجادة بردع القوات الإسرائيلية، ومنعها من استمرار مذابحها المتواصلة عبر عقود بحق الفلسطينيين؟! ألسنا بشرا؟!

ألم يروا مشهد الطفلة سيدرا، الطفلة التي قذفها صاروخ استهدف منزلهم، فترك جسدها المشوه، بأطرافه المقطوعة، يتدلى من أنقاض المبنى المُدمر في مدينة رفح، بينما الأم التي تحولت إلى أشلاء ظل ذراعها ملتصقا بجثمان ابنتها المعلق فوق الجدار، في مشهد مُروع وصادم، فطر القلوب، وجمد الدماء في العروق، وفجر الدموع والأحزان.. مشهدٌ حين رأيته، أُصبت بإعياء شديد، وشعرت معه بأن أحدا قد جردني من إنسانيتي، وطعنني في قلبي بمِنجل حاد.

كانت مجزرة من المجازر اليومية الدامية، التي تكررت عشرات – بل مئات المرات- بحق أهالي قطاع غزة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية المجنونة، في أعقاب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.. قصف وحشي عنيف، أودى بحياة جميع أفراد العائلة، فاستشهد الأب والأم وأبناؤهما الثلاثة، التوأم سيدرا وسوزان البالغتان من العمر 7 سنوات، والطفل مالك البالغ من العمر 15 شهراً، بالإضافة إلى الجد والجد، وعدد من الجيران.

عائلات بأكملها مُحيت أسماؤها من سجلات الأحياء، وبينما انقضى الشهر السادس من تلك الحرب الهمجية، تخطى عدد الشهداء الفلسطينيين 33 ألفا، واقترب عدد الجرحى من مئة ألف، ومازالت إسرائيل تعلن أنها مستمرة في معركتها لعدم تحقُق أهدافها بعد، فلا هي قضت على المقاومة الفلسطينية الباسلة، وصمودها الأسطوري، ولا هي حررت أسراها، الذين أعلنت أنها ما خاضت الحرب إلا من أجلهم.

ستة أشهر، والعالم لا يرى سوى مذابح مخيفة للأبرياء من المدنيين العُزل، والعجائز والأطفال والنساء! فهل لو أن هؤلاء الـ33 ألف شهيد من الفلسطينيين كانوا 33 ألف سنجاب، قتلتهم القوات الصهيونية، ودهستهم بالجرافات، هل سيكون رد فعل دول الغرب – التي تدعم إسرائيل بالمال والسلاح- كما هو رد فعلها الآن؟!!

بلى.. نحن بشر، لكن حرب ‎غزة وما شهدته من أحداث مهولة ومريرة، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، أن إسرائيل ما هي إلا تجمع لعصابات بربرية من القتلة والسفاحين، ولا يمكن بحال من الأحوال أن توصف بأنها دولة، بل هي كيان إرهابي مارق، وأفرادها يتصرفون كقطعان ضالة من كائنات مسعورة.. وكذلك أثبتت الحرب أن الغرب الذي يدعم كل هذا لم ينسَ ماضيه الاستعماري البغيض، وهو لن ينساه أبدا، وسيظل يتعامل معنا بمنطق الحروب الصليبية، وأنه {إن يظهروا عليكم لا يرقُبوا فيكم إلًّا ولا ذِمَّةً}.

لكن وعد الله آتٍ، وإن غدا لناظره قريب.

2 التعليقات

  1. H msbالفقير إلى الله

    لكن وعد الله آت
    وإن حكم سعد فيهم قائم إلى يوم الدين..
    والله الذي لا اله الا هو كفلق الصبح أمام ناظريه

    الرد
  2. رضا العلوي

    العالم الغربي المتوحش، نظرة سريعة في صفحات تاريخهم الأسود تبين لك مدى توحشهم وغطرستهم وإقصائهم للأخر، ومن يعتقد أن الغرب اليوم أكثر تحظراً من الأمس، فهو ساذج.
    تحياتي أستاذة شيرين وشكرا على مقالك الرائع.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...