هم الأحياء ونحن الأموات

بواسطة | أبريل 11, 2024

بواسطة | أبريل 11, 2024

هم الأحياء ونحن الأموات

يقف السيد “إسماعيل هنية”، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس،  في غرفة من غرف مشفى بالعاصمة القطرية “الدوحة”، ومعه بعض مساعديه، يتفقدون الجرحى الغزاويين، فيتلو عليه مساعده خبراً أتاه عبر هاتفه المحمول، يفيد باستشهاد أبناء “هنية” وعدد من أحفاده في قصف إسرائيلي غادر، استهدف مركبة كانوا يستقلونها أثناء زيارات الأهل والتهاني، صبيحة يوم العيد؛ فيعلق السيد إسماعيل بثبات ويقين قائلاً: لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم يفتح مساعده رسالة صوتية، نسمع فيها صوت أحدهم وهو يبكي بحرقة، فنفهم منه أنه يخبرهم بالحادث الأليم، وبارتقاء أبناء هنية، حازم وأمير ومحمد، وعدد من الأحفاد؛ فيقول السيد إسماعيل بمنتهى الرضا ورباطة الجأش: “الله يسهل عليهم”.. ثم يقترح عليه مساعده العودة وإنهاء تلك الزيارة، فيستنكر “هنية”، ويطلب منهم الاستمرار.

مشهدٌ لو رواه أحدهم لنا ولم ترصده عدسات الكاميرات ما صدقناه، لكن شاء الله أن يُصوَّر، ويُذاع بقناة الجزيرة، ومن ثمَّ تتناقله المواقع الإخبارية والفضائيات، ويتم تسجيله كمستند مهم، ووثيقة تاريخية تحفظ لنا واحدة من بطولات حركة حماس، وتضحياتها من القادة والأفراد، ومواقفهم الفدائية العظيمة.

فإسماعيل هنية هو إنسان قبل أن يكون قائدا، وهو أب مثل كل الآباء، يتعلق بأبنائه، وينخلع قلبه عليهم إذا غُرست شوكة في جسد أحدهم، فهم الذين جاؤوا من لحمه ودمه، ولم يكبروا -بالتأكيد- إلا في رحلة عناء وشقاء، وأنفق عليهم من ماله وعمره وصحته حتى رآهم رجالا يملؤون العين، ويفرح القلب بهم.. لكنهم الآن قد قضوا جميعا، في لحظة واحدة، في فعل مجرم من عدو خسيس، بضغطة زر داخل طائرة مقاتلة، أردتهُم بصاروخ فارتقوا جميعا – خمسة من الأبناء والأحفاد- شهداء، ليرتفع بذلك عدد الشهداء من عائلة هنية إلى ما يقرب من 60 شهيدا.

لكن كل ما تلفظ به الأب المكلوم هو عبارتا “لا حول ولا قوة إلا بالله” و”الله يسهل عليهم”!. لم ينتفض، لم يجزع، لم يبكِ بحرقة، لم ينطق بعبارة واحدة فيها سخط أو اعتراض.. في مشهد نادر فيه الإيمان والتسليم بقضاء الله، يحمل من القوة والصمود ما يتجاوز بمراحل ثبات الجبال، إنه التجسيد الواقعي لكل قصص الصبر العجيب، التي كنا نقرؤها بين دفتي كتب التاريخ الإسلامي لصحابة وتابعين، وتعيد سرد وتفسير كل ما استعصى علينا فهمه، من حكايات التاريخ.

تبدو المشاهد القادمة من ملحمة غزة وكأنها آتيةُ من زمن تليد، زمن انقضى ولم يعد حاضرا.. وكأن أهل غزة ومجاهديها الصابرين المقاومين هم خير أهل هذا الزمان، وأحفاد السابقين من أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة وعلي وعثمان.

في رسالة صوتية نشرتها حركة حماس، وجه إسماعيل هنية خطابا إلى شعبه وإلى الأمة الإسلامية، قال فيه: “أشكر الله على هذا الشرف، الذي أكرمنا به باستشهاد أبنائي الثلاثة وبعض الأحفاد”؛ وأضاف: “بهذه الآلام والدماء نصنع الآمال والمستقبل والحرية لشعبنا ولقضيتنا ولأمتنا”، وأكّد: “إن أبنائي ظلوا مع أبناء شعبنا في قطاع ‎غزة ولم يبرحوا القطاع”.

ما قاله يعيد إلى أذهاننا أقوال نائبه، الشهيد “صالح العاروري”، قبل استشهاده في قصف صهيوني غادر على الضاحية الجنوبية في بيروت، مطلع يناير/ كانون الثاني من هذا العام؛ وجاء فيه: “دماؤنا وأرواحنا ليست أغلى ولا أعز من أي شهيد، ولا يجب لأم شهيد أن تشعر بأن دماء القائد أو المسؤول أعز من دماء أبنائها، نحن سواسية، والشهيد الذي سبقنا بيوم أفضل منا”.

يُثبت لنا ذلك الحادث المفجع أن قادة حماس هم جزء أصيل من نسيج غزة الاجتماعي، لم ولن ينفصل عنها، وأن جميع أفراد عائلة “هنية” لم يغادروا أرضهم، بل لم يهاجروا من الشمال المحاصر والمنكوب بالمجاعة، وعاشوا طوال الأشهر الستة من عمر الحرب الوحشية، التي صُنفت كواحدة من أبشع حروب الإبادة في العصر الحديث، متمسكين بوطنهم، ومدافعين عنه بدمائهم وأنفسهم.

ويتذكر المتابع العربي ذلك الفيديو الشهير، للمتحدث العسكري باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، “أفيخاي أدرعي”، وهو يصرخ بلغة عربية ركيكة، وأسلوب مبتذل، قائلا: “استمعوا إلى ما قاله إسماعيل هنية”، عارضاً مشهدا للأخير وهو يدعو أهل غزة إلى التمسك بأرضهم، وعدم الهجرة منها، فيُعلق عليه قائلا: “بعد أن هاجر من غزة، هو وأولاده وأحفاده، وأثناء إقامتهم في الفنادق الفاخرة في قطر، يطلب هنية من أهل غزة البقاء في أرضهم وعدم الخروج منها، أليس هذا هو جهاد الفنادق؟”.. وهنا ينتهي المقطع.

بذلك ندرك جميعا أن عبارة “جهاد الفنادق”، التي كان يتقيؤها علينا المتصهينون العرب في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي برامج عدد من الفضائيات، مثل العربية و”سكاي نيوز”، قد حشاها بأجوافهم وعقولهم “أفيخاي أدرعي”، وأنه في بيانه الأخير، الذي اعترف فيه باسم الجيش الصهيوني باستهداف أبناء هنية داخل القطاع، واغتيالهم، لا لشيء سوى لأنهم أبناؤه، في تكرار لجرائم عصابات المافيا الوضيعة والمنظمات الإرهابية الموتورة، قد أثبت بذلك كذب وحقارة الخطاب الإعلامي الصهيوني، وخطاب أذنابه من المطبعين العرب، والمتصهينين، وعبيد الأنظمة العربية.

تلك الأنظمة هي صاحبة الميزانيات الضخمة، والجيوش المهولة، ومخازن الأسلحة المكدسة، التي فضحتها بسالة المقاومة الفلسطينية وانتصاراتها، بشباب متطوع يرتدون سراويل رياضية، ويقاتلون بأسلحة خفيفة تم تصنيعها يدويا، في ورش تحت الأرض وداخل الأنفاق، لنكتشف أن السلام الاستراتيجي ما هو إلا انبطاح وخِسة، والتطبيع خيانة للقضية والشعوب، وأن كل اتفاقيات العار مع العدو الصهيوني، لم تكن سوى تفاهمات للحفاظ على كراسي الحكم والعروش.

ندرك جميعا الآن، أن كتائب المقاومة الفلسطينية – وعلى رأسها حماس- هي الفئة المجاهدة، المؤيدة من الله، والتي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس”؛ وأن عقولنا لم تكن لتستوعب أن خذلانهم سيكون خذلانا من أمة بأكملها، وأن هؤلاء المجاهدين الأبطال سيقفون بمفردهم في وجه عدو غاشم، تحزبت خلفه كبرى دول العالم، وتعاونت معه جيوش عديدة.

ندرك جميعا اليوم أن قادة حماس لم يهربوا من المعركة، ولم يجاهدوا في الفنادق، بل خاضوا معاركهم كاملة من مختلف الساحات نيابة عن الأمة العاجزة، وها هم تارة في الأنفاق يستعدون، وأخرى فوق أرض الرباط يقاتلون، وثالثة من خارج بلادهم يُسمعون العالم كله صوت أبناء شعبهم، ويقومون بدور المحامي المخلص، والمفاوض الحكيم، وأن أهل فلسطين لم يبيعوا أرضهم، بل ضحوا من أجلها بالغالي والنفيس، وأن أعظم وأصدق ما قيل على مدار تلك الحرب الظالمة هو ما قالته زوجة الشهيد “حازم هنية” ووالدة الطفلتين اللتين ارتقتا مع والدهما، حين قالت باكية: “وصية زوجة شهيد وأم شهداء.. ما في أحد يناشد العرب، فهم الذين بحاجة إلينا، ولسنا نحنُ من نحتاج إليهم، همُ الأموات، ونحن الأحياء”؛ وتلَت قول الله تعالى: {ولا تحسبنَّ الَّذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون}.. صدق الله العظيم.

5 التعليقات

  1. Omar Ali

    أحسن الله اليك

    الرد
  2. رحيق شهاب الدين

    ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾

    ما شاء الله تبارك الله، عندما تجتمع القوة والعزة والشهامة والرصانة وكل أوصاف الرجولة بالصبر والإيمان والثبات والعقيدة في قائدنا المظفر الشيخ المجاهد إسماعيل هنية، نِعْمَ القادة والسادة قادة حماس العظماء! 🤍

    نبارك لقائدنا استشهاد أولاده وأحفاده رحمة الله تغشاهم، لقد اصطفاهم الله في أول أيام عيد الفطر المبارك ليكون عيدهم في جنة الخلد والنعيم الذي لا يفنى بإذن الله. 🤍

    يظن ويتوهَّم هذا الاحتلال الصهيوني الإرهابي النازي الفاشي المهزوم المأزوم بأنه يصنع انتصاراً بالاغتيالات واستهداف القادة وعائلاتهم وقصف المدنيين والأطفال والنساء؛ والله إنه يزيد بأس مجاهدينا العظماء ورباطة جأشهم ويعزِّز قوة وثبات وصبر أهلنا الأطهار وعزمهم الصلب في الصمود ويؤكِّد على وحدة غزة العزَّة شعباً ومقاومة، ويكتب نهايته وزواله بإذن الله على أيدي مجاهدينا الأبرار. 🤍

    هذه هي حماس العظيمة؛ قدَّمت وما زالت تقدِّم من أجل الله وفلسطين وفي طريق المقاومة والتحرير أبناء القادة بل القادة أنفسهم، رحمة الله تغشى كل شهدائنا الأطهار، إنَّ هذه الدماء الزكية والتضحيات الجسيمة هي وقود النصر العزيز والتمكين وتحرير أسرانا ومسرانا وفلسطين والفتح المبين القريب بإذن الله. 🤍

    وإنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد.✌🇵🇸

    شكراً جزاكِ الله خيراً وبارك الله فيكِ سيدتي على هذا المقال الشافي الوافي الكافي. 🤍

    الرد
  3. د وليد نور

    استاذة شيرين بارك الله فيكي قلتي كل ماكان يكمن في قلبي من معاني
    وافردتيها بذكاء مدعومة بكلام الله ورسوله فنعم المقالة ونعم الكاتبة جزاك الله كل الخير

    الرد
  4. رحيق شهاب الدين

    ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾

    ما شاء الله تبارك الله، عندما تجتمع القوة والعزة والشهامة والرصانة وكل أوصاف الرجولة بالصبر والإيمان والثبات والعقيدة في قائدنا المظفر الشيخ المجاهد إسماعيل هنية، نِعْمَ القادة والسادة قادة حماس العظماء!

    نبارك لقائدنا استشهاد أولاده وأحفاده رحمة الله تغشاهم، لقد اصطفاهم الله في أول أيام عيد الفطر المبارك ليكون عيدهم في جنة الخلد والنعيم الذي لا يفنى بإذن الله.

    يظن ويتوهَّم هذا الاحتلال الصهيوني الإرهابي النازي الفاشي المهزوم المأزوم بأنه يصنع انتصاراً بالاغتيالات واستهداف القادة وعائلاتهم وقصف المدنيين والأطفال والنساء؛ والله إنه يزيد بأس مجاهدينا العظماء ورباطة جأشهم ويعزِّز قوة وثبات وصبر أهلنا الأطهار وعزمهم الصلب في الصمود ويؤكِّد على وحدة غزة العزَّة شعباً ومقاومة، ويكتب نهايته وزواله بإذن الله على أيدي مجاهدينا الأبرار.

    هذه هي حماس العظيمة؛ قدَّمت وما زالت تقدِّم من أجل الله وفلسطين وفي طريق المقاومة والتحرير أبناء القادة بل القادة أنفسهم، رحمة الله تغشى كل شهدائنا الأطهار، إنَّ هذه الدماء الزكية والتضحيات الجسيمة هي وقود النصر العزيز والتمكين وتحرير أسرانا ومسرانا وفلسطين والفتح المبين القريب بإذن الله.

    وإنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد.

    شكراً جزاكِ الله خيراً وبارك الله فيكِ سيدتي على هذا المقال الشافي الوافي الكافي.

    الرد
  5. Boris Jackson-Miller

    ذكَّرتني مقولة زوجة الشهيد حازم ووالدة الشهيدتين بموقف أسماء بنت أبي بكر بعد استشهاد ولدها عبد الله:
    إن أسماء في الورى خيرُ أنثى
    صنعت في الوداعِ خيرَ صنيعِ
    جاءها ابنُ الزبَير يسحبُ دِرعاً
    تحتَ دِرعٍ منسوجةٍ مِن نَجيعِ
    (…)

    على لسان مصطفى المنفلوطي.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...