وباء اجتماعي يجتاحنا

بواسطة | مايو 3, 2023

بواسطة | مايو 3, 2023

وباء اجتماعي يجتاحنا

أعترف بأن أخلاقي صارت أكثر سوءا خلال ال 15 سنة الماضية، ليس بمعنى أنني انحرفت وصرت سيئ السيرة والسلوك، ولكن بمعنى أنني صرت أكثر عصبية وأكثر قابلية للانفعال والغضب؛ حتى عيالي صاروا يشكون من أنني صرت بركانا نشطا، أي أنفجر في وجوههم بدون أسباب وجيهة. فما الذي جرى لي وقد كنت أتحلى بطول البال وكظم الغيظ؟!.
إذا قال لي أحدكم عبارة سخيفة مثل: “عامل السن له دور”، فيا ويله وظلام ليله؛ فحتى لو افترضنا أنني تقدمت في السن إلى حد ما، فالمنطقي أن أكون أكثر صبرا وحلما، وأقل قابلية للاستفزاز. الإجابة على هذا السؤال في تقديري هي أن الجميع من حولي صاروا عصبيين وشديدي التوتر والقلق.. لم يعد الكبير يفترض أن الصغار سيعاملونه باحترام، ولم يعد الصغار يحسون أنهم ملزمون باحترام من يكبرونهم سنا. في الشارع يحسب كل سائق سيارة أن الحكومة رصفت الطريق خصيصا من أجله، ولكنه في الوقت ذاته، يعتقد أن هناك عناصر في الحكومة، تتعمد مضايقته بنصب إشارات مرور مبرمجة خصيصا لمضايقته والحد من انطلاقه بالسيارة؛ وفي المستشفيات يعتقد كل مريض أن من سبقوه إلى مقابلة الطبيب “عندهم واسطة”، وإلا لكان هو أول من يقابل الطبيب. و “الطبيب نفسه لا يعرف مدى معاناتي من تساقط الشعر، الذي قد يكون ناتجا من سرطان فروة الرأس، ويقضي وقتا طويلا مع أشخاص يعانون من أمراض بسيطة، مثل التهاب الزائدة الدودية أو الفشل الكلوي”؛ والصيدلي يوزع الأدوية على أناس “هلافيت” بينما أنا “بجلالة قدري” أقف منذ عشر دقائق.

الغضب صار وباء، والشاهد هو أن الوباء أصابني، لسبب بديهي، وهو أن سوء الخلق -كما حسن الخلق- “مُعدٍ”. أي ينتقل من إنسان إلى آخر.

صار كل واحد منا يعتبر أن الله لم يخلق مثله في العباد، وأنه أولى من غيره بالخدمات والامتيازات. لم يعد هناك حس اجتماعي أو مسؤولية مجتمعية قوية.. حتى داخل المسجد، قد تجد من يصيح في وجهك عندما تدوس طرف ثوبه غير عامد، وأنت تبحث عن مكان تجلس أو تقف فيه: عميان أنت؟. تخيل أنك قلت له: نعم عميان!. فيما مضى من الزمان، كانت مثل تلك الإجابة كفيلة بجعل الشخص الغاضب يتمنى لو تنفتح الأرض وتبتلعه، ولكن في أيامنا هذه قد يقول لك: الله لا يشفيك!.
الشاهد هو أن الغضب صار وباء، والشاهد هو أن الوباء أصابني، لسبب بديهي، وهو أن سوء الخلق -كما حسن الخلق- “مُعدٍ”. أي ينتقل من إنسان إلى آخر. فإذا كان أفراد المجتمع -بصفة عامة- يتحلون بالصبر والتحمل، ومعاملة الآخرين بالكلمة الطيبة؛ فإنك لا ترضى لنفسك أن تكون شاذا، وتحرص على مجاراة الغالبية في حسن السلوك؛ أما عندما يرى الصغار الكبار وهم يشتمون الآخرين بأوسخ الألفاظ، فإنهم -أي الصغار- سينشؤون وهم يعتقدون أنه من الطبيعي أن يسيء الناس الأدب مع بعضهم البعض.
نعم، هناك موجة غضب وبائية تجتاح مجتمعاتنا، ولا يكاد يمر شهر دون أن ينفجر شخص في وجهك، أو تجد نفسك طرفا في فاصل ردح وشتائم مع شخص لا تعرفه.. قد يكون ذلك الشخص بائعا في محل بيرغر، أعطاك سندويتش دجاج بدلا من اللحم، وهذا خطأ بسيط وكلنا نخطئ. وحدث في أرقى البلدان استئصال كلية شخص بدلا من قدمه المصابة بالغرغرينا. وكنت مرة أعاني من ورم في البطن “دُمَّل”، وعرضت نفسي على جراح أعرفه في مجمع طبي فيه أطباء من كل التخصصات تقريبا؛ وتمت إزالة الورم وصرت مطالبا بالعودة إلى العيادة مجددا لتنظيف الجرح، وعندما جلست أمام الجراح فتح ملفي وانفجر ضاحكا. ثم انقلب ضحكه الى هستيريا، فدخلت في نوبة غضب مزمجرة وعارمة: كيف يضحك طبيب على مريضه؟!. وما المضحك في أن يصاب شخص ما بورم أو خراج أو دمل في أي جزء من جسمه؟. ولماذا لم يضحك الرجل في المرة الفائتة، عندما قام بفتح الورم وتنظيفه؟. نهضت منفعلا وغادرت غرفة الطبيب، ولكنه طاردني في الممر وهو لا يزال يضحك: مع.. “هئ، هئ معليش.. يأيأيأ.. هاهاهاها… مع مع مع معليش يا جع جعفر”.. لحسن حظه لم يكن هناك مقص او مشرط في ممر العيادة، فقد كنت في حالة من الغيظ والاستفزاز، كانت كفيلة بجعلي أعتدي عليه، خاصة وأن أسرة التمريض سعدت بضحكة الجراح الهستيرية وشاركته فيها. ووقفت إلى جانب سيارتي في الشارع وأنا أفكر في الكيفية، التي ينبغي أن أعاقب بها طبيبا ضحك عليّ، بغض النظر عن نوع المرض الذي أعاني منه، وفوجئت بالجراح يخرج من العيادة ويتجه نحوي، وهو يحاول أن يكتم ضحكاته: سوري.. متأسف.. لو عرفت السبب لعذرتني!. قلت له أعذرك على ماذا؟ ما الاكتشاف الخطير الذي وجدته في ملفي، حتى تجعل مني أضحوكة؟!. سحبني الجراح من يدي، وقال: تعال، اقرأ ما كتبته الممرضة في ملفك، وستجد لي العذر. والله العظيم لازم ترجع العيادة، وتخرج منها وأنت ضاحك، وفوق هذا سأرد لك رسوم الكشف والجراحة.. بس تعال، لا تكون زول راسه ناشف.. ثم واصل الضحك. فقررت العودة معه الى العيادة “ولو اكتشفت أنه فعلا ضحك من أمر يتعلق بي وبمرضي، فسأضربه بأي شيء ثقيل الوزن أو حاد في مكتبه، واللي بدو يصير يصير”. دخلت المكتب ومد لي الطبيب الملف، وأشار عليّ أن أقرأ ما كتبته الممرضة على الورقة الصغيرة الملصقة بالملف عن حالتي، وكان باللغة الإنجليزية، وقرأت كلامها ولكنني لم أفهم معناه؛ فضحك الرجل مجددا حتى شرق بالدمع وقال: كتبت أن عندك حمل خارج الرحم.. صحت: “التار ولا العار”.. الشرف يا ولداه.. وظللت أضحك دون أن أحس بأن الغرفة امتلأت بالناس.. ما حدث هو أن الممرضة التي طعنت في شرفي، وضعت اسمي على غلاف ملف سيدة حامل، لا أدري لماذا جاء ملفها إلى عيادة جراح.

المصيبة أن مفردات تتعلق بالعورات صارت متداولة في لغة السباب، بحيث لم يعد كثيرون يعتبرونها ماسة بالشرف.

والغريب في الأمر أنني قد “أفقد أعصابي” في مواقف أقل استفزازا، ويحز في نفسي أن أول ضحايا فلتان أعصابي هم أفراد أسرتي؛ ولكن الإيجابي في الأمر، أنني أكون في غالب الأحوال في لحظات صفاء، أكون فيها ديمقراطيا، ويستغل عيالي تلك اللحظات لانتقاد “هوجاتي” المتكررة، أو يعاقبونني بأن يتهامسوا بينهم كلما جلست بينهم، أو يخاطبوني عن طريق أمهم، وهم يعلمون أن هذا يستفزني جدا؛ فما من شيء يضايقني كأن يطلب عيالي أشياء مني “بواسطة” أمهم، فذلك في تقدري منتهى سوء الظن بي.. المهم أن كل ذلك علمني أن أضبط أعصابي قدر المستطاع، وأن أصبر على سخافات عيالي (والتي أعتبرها سخافات قد يعتبرونها هم أمورا في منتهى الجدية).
ذات مرة انفجرت في وجه أصغر عيالي، لأنه قال لي إنه أحرز تقدير ممتاز في مادة العلوم، وألقيت نظرة على تقريره المدرسي، واكتشفت أن درجته (60)، فجعلت يومه في لون بشرتي، أي “أسود ومنيل”، بمعنى أنني “شرشحته” وبهدلته على “عدم أمانته وكذبه”؛ وبعد أن صبر المسكين على ذلك الهيجان، قال لي بهدوء: إن النتيجة 60 من 70!. أدرك الولد أنني حسبت تلك النتيجة 60 من 100، وصرت مثل السمسمة من فرط الخجل، واضطررت إلى تقديم مكافأة مادية سخية له، مداراة لخجلي من نفسي لسوء ظني به.
ولا أعرف لماذا إذا غضب مني أحد تركني في حالي، وشتم أبي و”أبو أهلي”؟. وكل هذا كوم، والشتائم التي تتناول العورات كوم آخر. والمصيبة أن مفردات تتعلق بالعورات صارت متداولة في لغة السباب، بحيث لم يعد كثيرون يعتبرونها ماسة بالشرف. وسمعت في مجمع تسوق امرأة عربية تشتم شابا بكلمات شديدة البذاءة، يبدو أنه غازلها، حتى كدت أصيح فيها: “طالما قاموسك متخم بالبذاءة فعلام الاحتجاج على المعاكسة والمغازلة؟”
اللهم اشفنا وعافنا جميعا من كافة أشكال العلل، ما ظهر منها وما بطن.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...