وداعاً شيخ المقاومة وحكيمها

بواسطة | يناير 10, 2024

بواسطة | يناير 10, 2024

وداعاً شيخ المقاومة وحكيمها

دور القادة العظماء في تشكيل مسارات الأمم، وكيف تراكم التضحيات تربي الأمة نحو النصر والعزّ.

قادة الأمة – حضور وتأثير

لم يسجل التاريخ أن أمةً من الأمم كان لها مكانة وحضور في مسرح الأحداث عبر التاريخ من غير أن يكون لها قادة كبار عظام في مقدمة صفوفها، كحداة لسيرها وبوصلة لمسيرتها نحو النصر ونحو المجد؛ وإن هوان الأمم واضمحلالها هو في غياب القادة الذين يمثلون رأس حربة الأمم وصانعي مجدها ونهوضها، فالقادة العظام هم إكسير مجد الأمم وعرابو انتصاراتها وخلودها في التاريخ.

إن استشهاد قائد هنا أو هناك، بقدر ما يمثل خسارةً كبيرةً لأمته وقضيته وشعبه، فإنه يمثل في مقدمة الصفوف وقوداً للمعركة، ومخاض ولادة جديدة للأمة، التي يروي قاداتها بدمائهم تراب الوطن، وتخصب هذه الدماء لحظة الميلاد المتجدد للقادة، لتستمر عجلة التاريخ ودورة الحياة بالتدفق بالبطولة والأبطال الشجعان على درب الشهادة في سبيل الوطن وعدالة قضيته.

تأسن حياة الأمم ويتراجع ويضمحل حضورها في التاريخ، كلما قل وجود قادة حقيقيين في مقدمة صفوفها، ولا يظهر هؤلاء القادة العظام في حياة الأمم كمثل ما يكون حضورهم في مراحل أزماتها، حينما تحدق بها الأخطار والمحن من كل حدب وصوب.. هنا تفرز الأمة قادتها، ويأتي دورهم في قيادة الأمة في محنتها وأزمتها.

لقد مثلت عملية الاغتيال الجبانة التي استهدفت الشيخ صالح العاروري (أبو محمد) ورفاقه، مساء يوم ٢ يناير الجاري، ضربة كبيرة للمقاومة الفلسطينية عموماً، ولحركة حماس خصوصاً، بأن نالت من أهم القادة الكبار في الحركة؛ وهذا – بالحسابات السياسية- هو بلا شك ضربة، وخسارة كبيرة لقائد فذ بحجم أبو محمد العاروري، وهو من القادة المعدودين الذين يشكلون حضوراً فارقاً ومهماً في هذه اللحظة التاريخية؛ ولكن مثل هذا الاغتيال، بقدر فداحته لفقد أحد أهم القادة الفلسطينيين الكبار، فإنه استشهاد يرسم لحظة ميلاد خصبة للقادة، وتأكيد لعنفوان صمود الأمة التي يستشهد قادتها الكبار في مقدمة الصفوف، هذا الاستشهاد الذي يستمد منه الشعب الفلسطيني صموده وثباته وتصميمه على النصر والاستمرار حتى النهاية، فالمعارك المصيرية هي معارك معنويات وسرديات وحضور روحي ووجداني، تستمد منه الأمة سلوانها وعزاءاتها لتستمر في سيرها ومعاركها حتى النهاية.

فبنظرة تأمل في تاريخ القضية الفلسطينية، نلاحظ جيداً أن كل حركات التحرر الفلسطينية قدمت قوافل من الشهداء من قاداتها، وتمكنت بذلك من إبقاء جذوة النضال الوطني الفلسطيني قائمةً ومشتعلةً لعقود، وأن كل الفصائل الفلسطينية التي قدمت التضحيات من قاداتها حققت حضوراً كبيراً في المشهد المحلي والإقليمي والدولي، وأن هذه الفصائل يخبو ويتلاشي حضورها كلما عزفت عن تقديم قرابين الشهداء، وكلما ابتعد قاداتها عن دروب التضحية والفدى.

ندرك جيداً أن حركة المقاومة الفلسطينية حماس، قدمت خيرة قادتها في معركة التحرير والمقاومة للمحتل، من الشهيد المؤسس الشيخ أحمد ياسين، إلى نائبه الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، إلى ثلة من خيار قادتها المؤسسين الكبار، كيحيى عياش وإسماعيل أبو شنب وإبراهيم المقادمة وأحمد الجعبري وجمال ريان.. إلى كثيرين غيرهم؛ ومع ذلك ظل رحم الحركة ولّاد للقادة، هؤلاء القادة الذين ظلوا بمثابة رموز لاستمرار القضية، ومصادر جذب للشعب نحو بوصلة المقاومة المسلحة والنضال كخيار وحيد للخلاص من نير الاحتلال الصهيوني.

ومثل حماس كانت أيضاً حركة فتح في بداية مراحلها النضالية الأولى، وقد قدمت تضحيات كبيرة من قياداتها، كخليل الوزير أبو جهاد، وصلاح خلف أبو إياد، وهايل عبد الحميد أبو الهول، وآخرين غيرهم، وصولاً حتى الشهيد ياسر عرفات، الذي مات مسموماً هو الآخر بعد كل التنازلات التي قدمها في أكذوبة أوسلو ومتاهاتها، فأراد في آخر أيامه أن يتنصل منها، لكنهم عاجلوه بالسم.

ما أريد قوله هنا، أن الحركات المقاومة كلما استمرت في تقديم التضحيات من قاداتها كعموم أبناء الشعب، كانت أكثر قدرة على المضي في مشروعها ومعركتها المصيرية حتى النهاية، وكلما باعدت مسافات التضحيات بين قاداتها وبين عموم أبناء الشعب، عزف عنها الشعب، وذهب يبحث عن قادته بنفسه بين صفوف الشعب ومناضليه الحقيقيين.

بالعودة إلى موضوعنا، وهو استشهاد القائد الشيخ صالح العاروري أبو محمد، فمن يعرف هذا الرجل يدرك جيداً أي مصير ينتظره، لما كان يمثله هذا القائد من حضور نضالي وجهادي كبير على كل المستويات، رجل قضى ما يقارب ١٨ عاماً في سجون الاحتلال، وظل ممسكاً بخيط القضية، وسرّاً في بقاء جذوة المقاومة مشتعلة؛ وليس هذا فحسب، بل كان أيضاً قارئاً جيداً لعقلية العدو الصهيوني وخارطة تفكيره، ومناطق ضعفه وقوته، وهذا ربما ما ميزه عن كثيرين من أقرانه الآخرين.

جمعني بهذا القائد العظيم لقاء بحثي عابر، قبيل عملية طوفان الأقصى بأشهر، فأذهلني عمق قراءته للمشهد الداخلي الإسرائيلي والإقليمي والدولي، وقدرته التحليلية لتعقيدات هذا المشهد وخارطة المضي في مواجهة كل هذه التعقيدات، وثقته الكبيرة بقدرة الشعب الفلسطيني وحركاته المقاومة على كسر المعادلة العسكرية والسياسية القائمة لصالح دولة الاحتلال، ويقينه أن خيار الحرب والمقاومة وحده هو الخيار الأكثر نفعاً في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، واستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المستلبة.

ومن موقعي كباحث، أعرف كثيرين من قيادات العمل الإسلامي بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية، لكنني لم أجد عند أحد كالذي عند أبي محمد العاروري وضوحاً وفهماً ومنهجاً في قراءة الواقع وقدرة على الاستشراف والعمل، لقد كان – رحمه الله- ذا نظرة ثاقبة وعميقة للواقع المحلي والإقليمي والدولي، هذا عدا عن حضوره الودود وقدرته على الإنصات لمحدثيه بكل أدب وتواضع جم، بينما المعتاد أن القائد العسكري الكبير لا يجتمع له مع صفة القيادة إلا إلقاء الأوامر، لا الاستماع للآخرين.

صحيح أنه خسارة كبيرة لفلسطين والأمة العربية والإسلامية كلها، هذا الفقدان الكبير لقائد عظيم بهذه المواصفات، وبهذه المكانة في المعركة واللحظة، لكن لا خسارات في المعارك المصيرية.. وإن استشهاد القادة – كما قلنا- هو الوقود الذي يخصب رحم هذه الأمة الولادة بالقادة والأبطال، فاستشهاد الأبطال هو المآل الطبيعي والنهاية الحتمية لهم، لأنه لا معنى للبطولة والقيادة مع إيثار الأمان والسلامة، ولا يعني هذا أن يلقي الأبطال بأنفسهم للتهلكة دون حيطة ولا حذر، وإنما نبذل الأسباب كلها ونستفرغ الجهد كله في هذا الجانب، وفي عقيدتنا بعد ذلك أنه لا يغني حذر من قدر.

 رحم الله الشهيد القائد البطل، الشيخ صالح العاروري أبو محمد، وأسكنه فسيح جناته، وعزاؤنا أنه باستشهاده غدا اليوم قائداً وملهماً للأمة كلها من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...