يا ولدي.. هذا عمك شبانة!

بواسطة | مايو 25, 2024

بواسطة | مايو 25, 2024

يا ولدي.. هذا عمك شبانة!

كان الخبر عن التونسية المغدورة “سوزان تميم”، بينما الصورة لـ “سوزان مبارك”، باعتبارها القتيلة في القضية الشهيرة!

وفي مسيرتي المهنية، التي كانت قد بلغت وقتئذ ربع قرن من الزمان، كانت تلك هي المرة الثانية التي أسمع فيها بحضور لجهاز المخابرات المصرية في أمر يخص النشر بالصحف.. كانت الأولى عندما عاد الحمزة دعبس، رئيس مجلس إدارة جريدة “النور” الإسلامية، من أفغانستان في زمن الوجود الروسي، وكتب عن تفاصيل زيارته؛ ومن باب أن الشيء بالشيء يُذكر، فقد كانت الصحف المصرية، والرأي العام كله، مع من أُطلق عليهم “المجاهدون الأفغان”، ولكن اليسار كان يمثل الرأي الآخر، والذي يذكره على استحياء، ومن هنا كانت دعوة دعبس من جانب الرئيس نجيب الله، بحضور عدد من الكتاب اليساريين، أذكر منهم فريدة النقاش (لاتزال حية ترزق إلى الآن)!

وكانت الدعاية تبالغ في ذكر الحكم الشيوعي بما وقر في الأذهان عن كفر الشيوعيين، وفي وقت كان يثار للنقاش العام سؤال: “هل يمكن أن يكون الشيوعي مسلماً؟”، وعقدت جريدة “اللواء الإسلامي” المملوكة للحزب الحاكم ندوة مطولة للإجابة عن هذا السؤال الوجودي، شارك فيها أحد شيوخ اليسار، وهو الشيخ مصطفى عاصي الذي سخر السادات منه ومن الشيوعيين، فقال: “حتى الشيخ بتاعهم عاصي”، كما شارك فيها خالد محيي الدين الأمين، العام لحزب التجمع الوطني الوحدوي، وآخرون؛ وكان في المواجهة عدد من شيوخ الأزهر، أذكر من بينهم موسى شاهين لاشين.. رحمة الله على الجميع!

وقد راعى الحمزة دعبس أن الرئيس نجيب الله – الموصوم بالشيوعي- قد صلى إماماً بأعضاء الوفد.. يا إلهي إنه يصلي! فعاد يدافع عنه، ولم يمنعه عن ذلك أنه إسلامي، وعضو في جماعة الدعوة والتبليغ، ويرتدي الملابس الباكستانية الشهيرة، منذ أن ترك موقعه كوكيل للنيابة، وانخرط في تأسيس حزب الأحرار إلى أن ترشح لرئاسة الحزب بعد منتصف التسعينيات!

وقد كتب دعبس في مقال له أنها المرة الأولى التي يتلقى فيها اتصالاً من ضابط بالمخابرات، يطلب منه الحضور إلى الجهاز لمناقشته في الزيارة!

في موضوع الخلط بين سوزان مبارك (حرم الرئيس المصري) وسوزان تميم (طليقة هشام طلعت مصطفى)، زار مقر الجريدة ثلاثة أو أربعة أفراد، وأرادوا الوقوف على كيفية وقوع الخطأ، الذي يدركون أنه لم يتم عمداً بطبيعة الحال، فوقفوا على أن من يعمل على تنفيذ الصفحة على جهاز الكمبيوتر، تنفيذاً للماكيت، طلب في البحث “سوزان” من ملف الصور، دون كتابة اللقب، فلم ينتبه إلى أن ما ظهر له صورة سوزان مبارك لا صورة سوزان تميم!

الكفتجي الإسرائيلي:

كان خطأ غير مقصود على أي حال، لكن عندما علمتُ به وصفتُ الجاني بأنه “كفتجي”، نسبة إلى “الكفتة”، ولم أكن أعلم أن الحدث سيتكرر بعد سنوات طويلة بواسطة أقوى جهاز أمني في المنطقة، وأن جهاز “الشاباك” الإسرائيلي هو “كفتجي”، فينشر خبراً عن مقتل أحد قادة المقاومة (محمد شبانة) مرفقا بصورته، فإذا بالاسم والشخص هو محمد شبانة، الناقد الرياضي المصري، لتصبح فضيحة يتغنى بها الركبان.

هو أمر كاشف عن سقوط الصورة الذهنية عن إسرائيل وأجهزتها، في موسم سقوط الأساطير، وفيها أن الصراع مع العرب صراع حضاري، انتصرت فيه إسرائيل لأنها الأكثر تحضراً، والجيش الإسرائيلي لا يُقهر، والأمن الإسرائيلي هو الأفضل والأقوى في المنطقة! فإذا بطوفان الأقصى يُسقط هذه الأساطير، وإذا بنا أمام همج التاريخ يستهدفون الأطفال الرضع، والمرضى، ولا يميزون بين المقاومة والمدنيين، وإذا بالجيش الذي لا يُقهر تتبدى عورته للناظرين، وإذا بجهاز الموساد يعيش الضياع، وإذا بجهاز الشاباك المرعب يقتل القائد الحمساوي الكبير محمد شبابة، بينما هو ينظر في ساعته وقد اقترب موعد انقطاع الكهرباء عنه ضمن سياسة تخفيف الأحمال، فإذا به وقد بدأت الدنيا تتسرب من بين يديه يصبح (تريند) وحديث العالم كله.. يا له من محظوظ!

“شبانة” هذا تجسيد حي – ومن لحم ودم- لحقيقة أن الدنيا إذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وتسري على حالته الحكمة البالغة “قيراط حظ.. ولا فدان شطارة”، وهو ليس كاتباً سياسياً متمكناً، ولا صاحب جماهيرية عريضة، ومع ذلك حيزت له الدنيا بحذافيرها، وجمع بين وظائف لم تجتمع لمحمد حسنين هيكل، ليركض في الدنيا ركض الوحوش في البرية!

أحد وجهاء المرحلة:

إن الصحفيين الذين ارتبطوا بعلاقات – ولو هامشية- بالحكم الإخواني تم إبعادهم تماماً عن المشهد في الحكم الجديد، مع أنهم عندما رأوا سفينة الإخوان تقترب من الغرق قفزوا منها، لكن لكونهم عُيّنوا رؤساء تحرير للصحف في حكم مرسي، فقد حرموا من الميراث، وبعضهم تقرب من الحكم الجديد بالنوافل، إلا شبانة، وهو ناقد رياضي ليس له شهرة ومكانة النقاد الرياضيين الكبار؛ فهو ليس علاء صادق مثلاً، وقد اقترب من الإخوان في فترة حكمهم، وربما رأوا أن لحيته القصيرة فيها ما يجعل سمته إسلامياً، تماماً كما عينوا محمد حسن البنا رئيسا لتحرير جريدة “الأخبار” من باب التبرُّك باسمه، وليس فيه ما يجعله يتخطى الرقاب بعد الثورة، في حين جرى إبعاد أمير الزهار، وهو صاحب موضوع، فقد واجه الإمبراطور إبراهيم سعدة، رئيس مؤسسة أخبار اليوم، واتهمه بالفساد، وهو أمر يمثل انتحاراً منه، يدركه من كانوا يُلمّون بتفاصيل هذه المرحلة من حكم مصر!

وبعد الإطاحة بحكم الإخوان، تم تدشين محمد شبانة كواحد من وجهاء المرحلة، وصار سكرتيراً عاماً لنقابة الصحفيين، ولأنه يفتقد للتاريخ الذي يسعى المرء لأن يحافظ عليه، وجاء لموقعه النقابي مفتقداً لتراث هذه النقابة العريقة، فقد ذهب بممارساته بعيداً، فتعامل معها على أنها قسم شرطة، وأنه رئيس مباحث هذا القسم، واستغل قبضة السلطة الجديدة في تنفيذ سياساته في جو الخوف الذي ساد!

لقد قام بتشوين كراسي الدور الثامن حيث الكافتيريا بدعوى إصلاحها، واستمر الإصلاح سنوات طويلة، ثم “شوَّن” جميع كراسي النقابة، فلا مقعد يجلس عليه أحد ولو لاستراحة قصيرة لكبار السن، فالحضور لإنجاز مهمة ثم الانصراف، ثم قام بإحاطة واجهة المبنى بالحديد والأعمدة، وغطاها بستارة، فلا سلالم ولا مكان للدخول سوى بالجنب من البوابة؛ فكان ما أطلقت عليه حين ذلك “تكفين النقابة”!

وأغدقت عليه السلطة بالمواقع، والتي تركّز عطاؤها في يد فئة قليلة، فبجانب كونه رئيس تحرير مجلة “الأهرام الرياضي”، هو عضو مجلس إدارة مؤسسة “الأهرام”، وهو مقدم برامج تلفزيونية، ثم اختارته عضواً في مجلس الشيوخ، فأطلق على نفسه “السيناتور”، تماماً كما غير اسم موقعه النقابي المنصوص عليه في القانون وهو السكرتير العام، ليصبح “الأمين العام” رغم أنف القانون!

القضاء يتدخل:

وتدخل القضاء ليضع حداً لهذا التغوّل وتمكين السلطة له من “التكويش” على المقاعد، فبتّ القضاء في دعوى أنه لا يجوز الجمع بين عضوية البرلمان ورئاسة تحرير مطبوعة تملكها الدولة. وفي دعوى أخرى قضت المحكمة بعدم جواز جمعه بين منصب سكرتير عام النقابة، وعضوية البرلمان، فتم تمكينه من اختيار من يحل محله في الموقع النقابي، ليستمر مهيمنا، ويتصرف في النقابة تصرف المالك في ما يملك، في ظل نقيب ترك له الجمل بما حمل وانصرف لمستقبله الوظيفي والسياسي، وما فاته من حطام الدنيا!

لم تدرك الإدارة الجديدة للدولة، ما كانت تدركه الإدارات السابقة، بأن الحاصل إن استمر بعض الوقت بقوة السلطة، فهو وضع غلط لا يمكن أن يستمر على الدوام، لتكون المفاجأة لها ولنا، وللجميع، بسقوط مرشحها على مقعد النقيب “خالد ميري”، ونجاح “خالد البلشي”، الذي ترشح على قاعدة أنه لا يجوز أن نترك الانتخابات فينجح مرشح السلطة بالتزكية، وتحرم الجماعة الصحفية من باب التمثيل المشرف، وقد عزف المرشحون التقليديون عن الترشُّح للموقع، فهناك تسليم كامل بأن ما تريده السلطة سيكون!

وكانت المفاجأة الأكبر هي سقوط شبانة نفسه، فمن كان يتصور أن يحدث هذا للسيناتور؟ ولكن الجمعية العمومية تدخلت لأول مرة في تاريخ النقابة لوضع حد لهذا الاستفزاز الذي ترعاه سلطة الحكم، لافتقادها الرشد في تسيير الأمور، وليس كل المستويات تدار بهذا الشكل، وصلاح أمر لمرحلة لا يعني نجاحه طوال الوقت!

ولأن البرلمان بغرفتيه خارج الخدمة، ولأن عضوية البرلمان صارت كالعضوية الشرفية في أحد الأندية، مكاناً للجلوس وربما للتريض دون الحق في شيء آخر، فقد اختفى من المشهد العام، ربما يقدم برنامجاً تلفزيونيا الآن، لكنه ليس صاحب بصمة في المجال، فلا يتهافت عليه المشاهدون، أو يتقصون أثره، أو يروجون أقواله!

السمت الإخواني:

وفي الوقت الذي بدا فيه شبانة وقد تجاوزه التاريخ، يتدخل جهاز الشاباك شخصياً، بكل ما أحيط به من أساطير، ليذكّر الناس به، ويعرّف العالم عليه، بنشر صورته واسمه، باعتباره أحد قادة المقاومة، وليس هذا فحسب بل أيضا بأنه قُتل في المعارك، فصار لدينا الشهيد الحي!

كيف وقع هذا الخطأ؟ هل لأنهم تعاملوا معه بـ “الشبه”؟ حيث اللحية القصيرة توحي بأنه من حماس، وربما استقر في أذهان الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ما استقر في ذهن الصحفي الأمريكي “ديفيد د. كيركباتريك” في كتابه “في قبضة العسكر”، عن وجود سمت معروف للإخواني، في شرحه لسمت الإخوان، وسمت السلفيين، وباعتبار الإخواني صاحب لحية قصيرة، ويقول إنه سمت معروف لدى المصريين.. وهو من الأخطاء الكثيرة في هذا الكتاب، فمن الواضح أن “كيركباتريك” وقع ضحية عدد من الأشخاص الذين تعرف عليهم في ميدان التحرير، فقالوا أمامه ما يثير فضوله، وتصوَّر عقب ذلك أنه جاء بالذئب من ذيله! فسمت الإخوان هو ما أشير له مازحاً بأنهم يحلقون عند حلاق واحد في الأغلب، أو أن هناك “كتالوج” للحلاقة ينتقلون به، انظر إليهم وتستطيع أن تتعرف عليهم ولو في حشد من الناس!

ما علينا، فيبدو أن شبانة استفاد من هذا السمت، وهذه اللحية التي كانت تنسب في السابق لفادي لبنان، وقبل خمسة وثلاثين عاماً كتب الراحل مصطفى شردي رئيس تحرير “الوفد” في وصف محرر لديه هو زميلنا محمود الشاذلي الذي نجح في انتخابات البرلمان قبل الثورة، إن لحيته كثة مثل لحية فادي لبنان، لكن كل من يعرفون الشاذلي يدركون أن الوصف ليس دقيقاً، وأن لحيته في طول لحية الشيخ ياسر برهاني!

وكما اختار الإخوان محمد حسن البنا رئيساً لتحرير جريدة “الأخبار” تفاؤلاً باسمه، أخشى أن الجماعة الصحفية ستعيد شبانة في الانتخابات القادمة للنقابة تبرُّكاً بلحيته، وبحسبانه هو والسنوار صنوان!

ويا ولدي هذا عمك شبانة!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...