فلسطين.. أمي وذاكرتي وجدار حياتي!

بواسطة | مارس 7, 2024

بواسطة | مارس 7, 2024

فلسطين.. أمي وذاكرتي وجدار حياتي!

تطرح الحياة تحديات تتجاوز الكتابة وتتطلب العمل الفعلي، ورغم الوعي بقضية فلسطين، يظل الالتزام الحقيقي قيد التساؤل. يستعرض المقال الشعور بالتقصير تجاه القضية والضرورة الملحة للعمل الميداني.

الالتزام بالقضية الفلسطينية – بين الكتابة والعمل الفعلي

غسان كنفاني (رحمه الله) كان يخشى من أن تصبح الخيانة وجهة نظر.. وقد حصل الآن بالفعل أن أصبحت الخيانة وجهة نظر، يدعون لقبولها واحترامها، ومن لا يفعل يُتَّهم بالتطرف والتخلف والرجعية ومحاربة فكرة السلام.

أما ما لم يفكر به غسان ولم يخشَه آنذاك، لأنه – ربما- لم يظن أنه سيحدث، فهو أن تصبح مناصرة الحق أمرا مستغربا، وربما مستهجنا أحيانا.. وقد حدث هذا أيضا!

وفي أحداث غزة الأخيرة، رأينا وسمعنا ما لم يتوقعه غسان ومن بَعده أيضا.. وهو ما جعل كثيرين من أبناء الجيل الجديد، يستغربون من بقاء الناس على قيد القضية رغم كل التحولات التي مرت بها، ومروا بها في سياقها.

أنا – مثلاً- أستغرب أحيانا عندما يعتبر من يتابعني أن ما أكتبه عن أحداث طوفان الأقصى وعن القضية الفلسطينية ككل هو التزام مني بالقضية.. أستغرب أن يظن بعض من يعرفني أنني أبلي بلاء حسنا تجاه فلسطين، لمجرد أنني أتذكرها وأضعها كأيقونة جمالية لأزين فيها كل منصاتي على وسائل التواصل الاجتماعي، أو أرتديها كوفية أو أعلق خريطتها قلادة حول رقبتي؛ أخجل من هذا الاعتبار وهذا السؤال، وأهرب منه لأنه غالبا ما يذكرني بخيبتي، وبأحلام المراهقة التي لم تتحقق عندما كنت أراني وقد حملت بندقية وصوبتها باتجاه المحتل، لأنتهي إلى عبارات الشجب والتنديد، كما يفعل معظم السياسيين العرب المتآمرين على فلسطين.. أن أكتب وحسب.

أشعر أن هذا هو العادي – بل والطبيعي جدا- لأي عربي أو مسلم، أو أي إنسان مؤمن بضرورة الانحياز للحق والعمل على مساندة فرص العدالة في العالم. الكتابة عن القضية واستثمار كل المنصات والفرص المتاحة للتذكير بها شيء جيد ولكنه عادي جدا، وقليل جدا جدا.. صحيح أنه يعبر على الأقل عن التزامنا بهذه القضية الأولى في وجودنا الإنساني والثقافي والتاريخي، لكنه للأسف غير كافٍ للتعبير عن مدى وحجم وحدود هذا الالتزام.

شعوري بالتقصير تجاه هذه القضية عموما، وتجاه ما يحدث في غزة هذه الأيام، يكاد يقتلني فعلا وليس مجازا؛ وأظن أن كثيرين جدا في الوطن العربي كله يشاطرونني هذا الشعور.

نحن مقصرون، ومهما حاولنا تجميل هذه الحقيقة الموجعة باللاوعي، عبر الكتابة والمساهمة في فعاليات وأنشطة لدعم القضية ولدعم الفلسطينيين سنُفاجَأ أننا ما زلنا موجوعين بها، وأن كل ما نفعله إنما نفعله لصالح أنفسنا أولاً، من أجل تضميد الجرح النازف في عمق ضمائرنا، من أجل آبائنا وأجدادنا ومعارفنا ممن مضوا إلى حتفهم بأدعيتهم الحارة، وصلواتهم المعلقة على أسوار الانتظار، وهم يحلمون أن أبناءهم وأحفادهم سيعوضون العجز الراهن آنذاك، وأن هؤلاء الأبناء والأحفاد سيدخلون فلسطين من كل فج عميق، منتصرين وفاتحين، وأنهم سيصلون في المسجد الأقصى محرراً، وأنهم سيدعون لأسلافهم بالمغفرة والرحمة.

لكننا لم نفعل ذلك للأسف.. طوال تلك السنوات الكثيرة والعقود المريرة التي أعقبت الوعي بالقضية، لم نحقق الحلم.. لم نحرر فلسطين ولم نصلِّ في الأقصى محرراً!. نحن واصلنا الحلم العتيق وكررنا الدعاء المتواصل، وهو عظيم وجليل، ولكنه لا يكفي.. لا يكفينا ولا يكفي الحلم.

وها نحن وقد مضى بعضنا الآن إلى حتفه بذات الدعاء وذات الحلم؛ فماذا نفعل سوى أن نستمر؟

نكتب وندعو ونرفع أصواتنا بالأمنيات، من أجل إسكات هذا الصوت الخفي، ولكن القوي أيضا، الذي يزعج طمأنينتنا للحياة ولأفكار السلام والحرية والعدالة والمساواة.

أنا مؤمنة بالقضية الفلسطينية منذ ما قبل ولادتي ربما.. ولدت بين صلوات والدتي رحمها الله، وهي تتعمد أن ترفع صوتها عندما تأتي فقرة الدعاء لتحرر فلسطين نهاية كل صلاة، فنشأت وفلسطين هي أمي الأولى المفقودة بين ركام الأمنيات الصعبة، أو هي فردوسي الضائع منذ زمن بعيد وعليَّ أن أستعيده كاملاً وفوراً، ليتحقق دعاء والدتي بالقبول، وتكتمل صلاتها السرمدية بطمأنينة الخلود.

لقد كبرت على هذا الأمل الجليل، الذي رافقني في كل مفاصل حياتي كلمة وصلاة ودعاء وأغنية وأمنية، وعلما مرفرفا في كل مكان، وحلما محلقا بين الجواء؛ ولاحقا تيقنت أن الأمل يحتاج مني لعمل يتجاوز دعاء والدتي.. في المرحلة الثانوية حظيت بمعلمة عظيمة، علمتني إلى جانب مادة اللغة العربية تفاصيل القضية كلها آنذاك، كانت تزودني بكتب ومنشورات أعود بها للبيت لأقرأها وأنا أتعجب من حال العرب، وعندما أعود لمعلمتي بالكتب والمنشورات بعد قراءتها، أُمطرها بأسئلتي التي لم أقتنع بأي إجابات لها مما كانت تقوله لي، وحتى اللحظة بقيت أسئلتي بلا إجابات شافية.. لماذا لا نسترجع فلسطين؟ لماذا لا نعيدها؟ لماذا لا نحررها فورا؟

هل أقول إن فلسطين ذاكرتي أيضا؟

هي كذلك، فكل ذكرياتي في حياتي تستند إلى جدار فلسطين حتى لا تتهاوى، فلا تضيع الذكريات ولا تموت الذاكرة.

أصدق أحيانا أنني أعمل على حماية ذاكرتي وأعتني بها، وهي المهددة دائما بعواصف النسيان، من أجل أن أحتفظ بذلك الجدار، ولكنني في بعض المرات أشعر أن العكس هو الصحيح، أي أن الجدار الصلب الصلد الأزلي هو ما يسند تلك الذاكرة كلما شعرت بقرب النهاية!

1 تعليق

  1. اسماء

    وكأنما كتبتِ عني وعن ذاكرتي شخصيا .. في العاشرة من عمري قرأت مجادا شخما اسمه القضبة الفلسطينية وكان ذلك في السبعينات الميلادية ولا تزال القضية وكانما هي قضيتي الخاصة منذ ان كنت ادفع ديالا لانقذ عربيا في تلم الحقبة حتى الان حين اتبرع او اناصر بشكل غير مباشر في من الخوف من وسائل التواصل الاجتماعي .. اقسم اني اشعر بالخجل الشديد مما يحدث واشعر بالتقصير ايضا وانا حتى لا استطيع التعبير عما في نفسي .. سامحينا غزة ..سامحينا فلسطين .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...