في رحاب العميد

بواسطة | مايو 8, 2024

بواسطة | مايو 8, 2024

في رحاب العميد

“أنت أهم أم طه حسين؟!”.. يسأل يوسف زيدان فراسًا السواح، فيجيبه الثاني: “أنا أهم، وأنت أهم من طه حسين”!. هكذا ودون تردد ودون مراجعة.

لا أستطيع أن أقول دون علم، فمن قرأ يوسف زيدان أو تابع أحاديثه التلفزيونية يعرف أنه متيم بطه حسين، بل ويحلم أن يجلس على كرسي العميد في الأدب، وهي مساحة لم يستطع أحد آخر الوصول إليها أو التفرد بها، حظي طه حسين بمكانة فريدة في الأدب العربي، اكتسبها بثقافته العريضة وفكره ونقده وشخصيته القوية.. بعد السؤال الذي طُرح في منتدى “تكوين”، في ندوة عنوانها “خمسون عاما على رحيل طه حسين”، قامت الدنيا ولم تقعد من شباب وشيبان، جلهم ينتصر لطه حسين وقيمته ودوره.

يرى يوسف زيدان أن كتبه توزع أو تباع أكثر من كتب طه حسين، وأنه كان يطبع ألف نسخة من كتاب له فتظل في السوق 10 سنوات حتى تنفد، وهي حجة خائبة لا يذكرها إلا طالب بليد، رواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني تُرجمت أكثر من كتب نجيب محفوظ، وفاقت نجيب محفوظ في الطباعة والتوزيع، فهل يخرج علاء الأسواني ليقول إنه أهم من نجيب محفوظ؟!

قال نجيب محفوظ في روايته “الحرافيش”: لكن آفة حارتنا النسيان.. والناس تنسى، لكن النخبة ليست كالناس، ويوسف زيدان وفراس السواح في معرفتهما بطه حسين يجب ألا ينسيا، بل هذا يقودنا إلى الكشف عن أدب وأدب ودور ودور، يوسف زيدان لديه تحقيقات في التراث عبر عشرات الكتب، لها قيمتها لكنها لا تصل أبدا إلى مستوى تحقيقات طه حسين وتاريخه، أما عن الدور السياسي الذي قام به طه حسين فإنه يحتاج إلى كتب وليس مقال عابر، ومن قرأ السيرة الذاتية لطه حسين “الأيام”، ومواقفه منذ كان تلميذا صغيرا في الكُتّاب وحتى رحيله، يكتشف أننا أمام رجل صاحب موقف وليس مبرّراتيًّا.

في الأيام، يحكي طه حسين عن بدايته الصحفية ككاتب مقال وطالب في جامعة الأزهر، لم يكن طه مقتنعا بمشايخ الأزهر، وكان دائم النقد لهم. سكن طه حسين بين المجاورين في حي الأزهر الشريف في غرفة نادرة الأثاث في ربع من ربوع الأزهر، وكان جادا مجدا مجتهدا على الرغم من عدم قناعته الكاملة بالدراسة الأزهرية؛ وفي هذه الفترة عرف طريقه إلى الصحافة، فتعرّف إلى أحمد لطفي السيد والشيخ عبد العزيز جاويش، اللذين كان لهما التأثير الأكبر في حياته في هذه المرحلة، فالأول كان محرضه على الاعتدال والقصد، والثاني كان محرضه على الغلو والإسراف، وقد بدأ نشر بعض المقالات من خلالهما في جريدة العلم، وهاجم مشايخ الأزهر وانتقدهم، فأوصله الأمر إلى منعه من الحصول على الشهادة الثانوية.

انتسب إلى جامعة القاهرة مع بداياتها، وحقق نجاحا باهرا في علومها وآدابها، والتقى بالسلطان مرة وبالخديوي مرتين نتيجة لتفوقه.. انتقد سعد باشا زغلول كثيرا، رغم إيمانه بنضاله وحبه له، وهذا لم يمنع سعدًا من أن يلتقيه في باريس أثناء سفر الوفد لعرض قضية استقلال مصر، ودار بينهما حديث ثوري.. كان سعد مغموما حزينا بعد منعه والوفد من الذهاب إلى مؤتمر الصلح لعرض قضية مصر؛ وسأله طه عما يدرس فقال: أدرس التاريخ.

قال سعد إنه لا يؤمن بصدق التاريخ، بسبب ما يرى من التضليل والأكاذيب، التي تنشرها الصحف في مصر وباريس عنه وعن الوفد وعن مصر، وقال إنه يائس. فردّ طه: وكيف تيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ، ودعوتموه فاستجاب؟.

قال سعد: وماذا يستطيع الشعب أن يصنع وهو أعزل لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلا عن أن يثور بأصحاب القوة والبأس؟ فأجاب طه: هو الآن أعزل، ولكنه سيجد السلاح غدا.

سأل سعد: وأين يجده؟ فقال طه: إن الذين يُهرِّبون لنا الحشيش يستطيعون أن يهربوا لنا الأسلحة.

هذا طه، بينما د. يوسف زيدان يبيع لمن يشتري، مواقفه في دعم الاستبداد لا تحتاج إلى دليل، مراجعة بسيطة لمواقفه من السيسي في السنوات العشر الأخيرة في ما كتبه وعلى شاشة التلفزيون تكشف الوهن الذي يعاني منه، لقد تحول يوسف زيدان – وهو أديب كبير- إلى مادة سخرية للجمهور بسبب أحاديثه مع عمرو أديب، التي يبرر فيها للسيسي كل شيء، فلو كان رهين المحبسين المعري الصغير يعيش بيننا الآن، أكان يفعل مثلما فعل زيدان مع السيسي وغيره من الحكام العرب؟!

نحن نواجه تصحرًا سياسيًّا فكريًّا أدبيًّا في مرحلة بائسة، تريد إسقاط قامة ساهمت في التنوير على المستويات، السياسي والفكري والقصصي والروائي، بل والديني في كتبه العظيمة عن الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، لذا لم يكن غريبا سؤال يوسف زيدان وفراس السواح، والذي – بالمناسبة- تراجعا عنه وبرراه بأنه كان مزحة، شهدتُ تراجعهما مع الزميل عمرو عبد الحميد، وكذلك مداخلة يوسف زيدان مع عزة مصطفى على قناة صدى البلد، ولو اعتبرناها مزحة فإنها كانت مزحة بائسة ثقيلة الدم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...