عن الطّواف ورمي الجمار.. وحدة المعركة والأثر الحضاريّ

بواسطة | يونيو 15, 2024

بواسطة | يونيو 15, 2024

عن الطّواف ورمي الجمار.. وحدة المعركة والأثر الحضاريّ

لا تفتأ شعيرة الحجّ تبهرنا بمعانيها التي لا تنتهي، وإنّ من تعظيم شعائر الله تعالى إدامة النظر في تفاصيلها لفهم ماهية هذا الدين العظيم.

وفي ظلّ إذكاء المعارك الموهومة بين الرجل والمرأة، وإلهاء الناس بها عن معركتهم الكبرى مع الشّيطان بصوره كلها، والشّيطان اليوم يمارس حرب إبادة غير مسبوقة على أمتنا نراها على أرض غزة جرحًا ثاغبًا ونزفًا عظيمًا لا يرقأ؛ فكان لزامًا على العقل أن يمعن النظر في الطواف ورمي الجمار الذي يقوم به الحجيج أيامنا هذه.

بَحرانِ لا برزخ بينهما

في الطّواف تلتقي الأمواج البشريّة لا برزخ بينها ولا يحجزها عن بعضها حاجز؛ أمواج الرّجال والنّساء، أشواطهم سبعةٌ للرجال والنساءِ لا فرق ولا تفريق، كلّهم يطوفون حول محورٍ واحدٍ، ويؤدّون مهمّةً واحدةً، وهذه هي المرأة التي يريدها الإسلامُ في بنيانه الحضاريّ المرصوص؛ تطوفُ مع الرّجل، محور طوافهم واحدٌ هو الاستخلاف في هذه الأرض وعمارة الكون بالإصلاح والإحياء؛ فلا تتأخر عنه ولا يتقدّم عليها، ولا حواجز بينهما تمنعُ أداء المهمّة المنوطة بكلّ واحدٍ منهما.

وكذلك بين الصّفا والمروة يسعى الرّجال والنساء على خطا امرأة، يشتركون في السّعي ويتحدون في الوجهة ذهابًا وإيابًا، فلا تختصّ المرأة بمسارٍ مختلفٍ ولا ينفردُ الرّجال عنها.

وهكذا هي الحياة التي يرسمها الإسلام، سعيٌ مشتركٌ بين الرّجل والمرأة ووجهةٌ واحدةٌ لا تشاكسَ فيها ولا تناقض ولا تصارُع؛ سعيٌ مشتركٌ لا مغالبةَ فيه في وسط الطريق، ولا تحويل للوجهات، ولا تضادّ في المصائر.

وإننا نرى المرأة والرجل اليوم صنوان في معركة الثبات على الحق في غزة، فلا هي تتأخر عن الرجل في ضرب أروع معاني التضحية واليقين والرضا والصبر ولا الرجل يمارس ذكوريته عليها في قلب المعركة الحاسمة بل إنّه يجود بنفسه وروحه فداء لها وذودًا عنها وحماية لها باذلًا غاية استطاعته لحمايتها من أرجاس المحتل؛ فكلاهما في طواف جهادي حضاريّ يقدم صورة الإسلام التي أبهرت شرائح غير يسيرة من أهل الغرب بتكاتفهما في ميدان الثبات واليقين.

عدوٌ واحد ومعركةٌ واحدة

وفي رمي الجمار تقف المرأة جنبًا إلى جنب مع الرّجل تستهدف معه رمز العدوّ المشترك بالسلاح ذاته وبكميّة الذّخيرة الرّمزيّة ذاتها، لا تتأخّر عنه في آليّة الرمي ولا في عدد الحصى المعدّة للرّمي.

إنّها المعركة الواحدة للرجل والمرأة معًا، المعركة ضدّ الباطل، والمعركة ضدّ الشيطان، فلا هي معركة الرّجل وحده ولا هي معركة المرأة وحدها، بل هي معركتهما جنبًا إلى جنب بالقدر ذاته من المسؤوليّة ووجوب المواجهة.

وتحدث الكارثة حين تتغيّر بوصلة المعركة فتصبح المرأة عدوّ الرّجل كما يرى ذلك المغرقون في الذّكوريّة، وعندما يغدو الرّجل العدوّ الأوّل بل ربّما الأوحد للمرأة كما تمارسُ ذلك “الفيمنيزم” والحركة النّسوية التي تحارب الرجل تحت ستار النضال لتحقيق حرية المرأة في تيه واضح عن حقيقة العدو الذي يجب التحرر منه.

تحويل مسار المعركة وتغيير بوصلتها بعد تمركز كلّ من الرّجال والنّساء حول أنفسهم هو أحد نتاجات الإغراق والغرق في الماديّة التي يعمل الحجّ على الانعتاق منها والتحليق في فضاءات الرّوحيّة الشفيفة، واكتشاف الإنسان من جديد روحه التي أنهكتها الماديّة المهيمنة على الحياة؛ فيستعيد المرء توازنه في نظرته للأشياء وتعامله معها، وتقييمه للأعداء والأصدقاء في حياته القصيرة.

وفي غزة اليوم عدو واحد تقف المرأة والرجل معا منه موقف المواجهة ذاته، وهو الوحيد المستحق للرجم، وإن تحويل مسار المعركة لتغدو بين المظلومين فيما بينهم أو بين الرجل والمرأة لهو من سفاهة النفس ورداءة العقل وتيه المقاصد.

في الحجّ لا يتحرّر الإنسان من ربقة الماديّة فحسب بل تتحرر المعاني المتعلّقة بالمرأة أيضًا من أغلال الأعراف، وتتحرر المفاهيم من زنازين التقاليد، وفي الحجّ نعاينُ روح الإسلام التي جعلت الخلق من ذكرٍ وأنثى، وجعلت المرأة ملهمًا ومَعلمًا ومُعلّمًا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
طمأنينة الشك!

طمأنينة الشك!

لستُ بحاجة إلى مقدمات طويلة أمهد بها قولي، وأشرح فيها مقصود عنوان مقالي.. نعم، طمأنينة القلب والفؤاد، وراحة الذهن والبال، التي لا تتأتى إلا عن يقين يولد بعد مخاض طويل، ورحلة شاقة في أودية الشك! الشك الذي ظلموه كثيراً، واعتبروه شارة خطر، ودلالة على ارتباك ومراهقة...

قراءة المزيد
نماذج عُلمائية مُلهمة.. (أبي بن كعب) صاحب رسول الله، وسيد القرّاء في زمانه

نماذج عُلمائية مُلهمة.. (أبي بن كعب) صاحب رسول الله، وسيد القرّاء في زمانه

قي سُبُلِ المتقين ومدارج السالكين، الصحابي أبي بن كعب بدري من بني مالك بن النجار من الخزرج، كاتب وحي رسول الله ﷺ، ومن كتّاب كتب النبي ﷺ للقبائل، ومقرئ الوفود القرآن في زمن رسول الله، عالم الحفّاظ، وحافظ العلماء، وسيد القرّاء، وحافظ كلام الرحمن، أبو منذر الأنصاري،...

قراءة المزيد
Loading...