يوم عرفة وكتابة المسار الاستراتيجي للأمة

بواسطة | يونيو 16, 2024

بواسطة | يونيو 16, 2024

يوم عرفة وكتابة المسار الاستراتيجي للأمة

قال النبي الأكرم ﷺ في يوم عرفة، في خطبة كان لها وقع على سامعها لجلالها وبهائها، وما تحمله من رسائل للأمة وللشعوب العربية والإسلامية، وللأجيال التي سوف تتعاقب بعد ذلك: “ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي”.

وما ذكر النبي الأكرم أمر الجاهلية إلا لعلمه أن الممارسات الجاهلة لا تنفضّ عن أيدي الناس ما دامت أرواحهم تسري في أجسادهم، فإن النفوس لا تزال تراودها الأفكار الجاهلية، وتسعى جاهدة في حرب نفسية لمجابهة تلك المرادات التي لا تخلق في النفس إلا رديء الفعل ومجانبة الصواب، وتعزز الجهالة والفردانية .

والجاهلية مصطلح إسلامي، ورد في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في مراد ذمها والتحذير منها.. ويشير هذا المصطلح في عمومه إلى حياة الأمم والشعوب قبل نزول التشريع الإسلامي، وما يخالط تلك الفترة من جهل شديد في كثير من النواحي والجوانب، وأهمها الجانب الديني الفكري المعتقدي، وهناك أيضا الجانب السلوكي الاقتصادي، وأيضا الجوانب الأخلاقية والاجتماعية وغيرها.

وعلى سبيل المثال، يتضمن التحذيرُ من جاهلية المعتقد التحذيرَ من الشرك بالله، ومن الاعتقاد بأن مصائر الأمور ومبادئها ليست من عند الله تعالى، فيبقى العقل الإنساني رهينة لأطراف مخلوقة وأشياء موجودة لا علاقة لها بنشوء السبب وفعاليته، ويبقى عقل المشرك خاملا عن التفكير بجدية في البحث والنظر في أدوات الخالق، التي خلقها لكي يستثمرها الإنسان دون اعتقاد منه بأنها المسببة للأمور، وتبقى مخلوقة قد لا تثمر عند شيء يريده الإنسان، ولو بذل في ذلك ما يملك.. {وما رميت إذ رميت ولكنَّ الله رمى}.

ومن الذي حذر منه النبي الأكرم أن تكون الأحكام غير متوافقة مع المنهجية الإسلامية في الإدارة والسياسة والحكم، وقد قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حُكماً لقوم يوقنون}. فالتشريعات التي كُتبت خارج النطاق البشري هي أحكام تتميز بالديمومة والثبات في كل زمان ومكان، فالصانع أعلم بما يناسب صنعته في كل ظرف وفي كل حين .

ومن الجاهلية الاقتصادية التي جاء التحذير منها الربا والفائدة، التي أثمرت ركوداً تجاريّاً وتدهوراً ماليّاً واستثماريّاً، ولا تعود على المجتمعات – أعني الفائدة- بشيء من الثمرات الإيجابية، كتحريك عجلة التنمية الاقتصادية، أو زيادة فرص العمل للشباب من أصحاب المؤهلات، الذين يبحثون وظائف تسد حاجاتهم المعيشية. لذلك قال النبي الأكرم عن الربا: “ألا إن أول ربا أضعه في الإسلام ربا عمي العباس بن عبد المطلب”.

وأكد الإسلام على أن الناس سواسية أمام الله، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. قال النبي محمد ﷺ في خطبته: “أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى.” وحذر من العصبية القبلية، واعتبرها من الجاهلية. قال ﷺ: “دعوها فإنها منتنة”.

وعندما تكون خطبة عرفة، والتي قيلت في المكان والزمان المباركين، إذ يباهي الله تعالى بالمؤمنين ملائكته، غير خالية من ذكر الجاهلية على سبيل الذم، فذلك أدعى أن يكون للأجيال وقفات مع كل سلوك وممارسة تنحو منحى الجهل، وأن تكون أولوياتهم التخلص منها، واستعادة وعي الشارع العربي والإسلامي حول تلك الممارسات المخالفة للتوجه النبوي .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...