جرأة نجيب ساويرس بين المسجد والكنيسة والمستشفى!

بواسطة | يونيو 25, 2024

بواسطة | يونيو 25, 2024

جرأة نجيب ساويرس بين المسجد والكنيسة والمستشفى!

قبل نحو عقدين من الزمن قررت أن أكون من أصحاب السيارات لأول مرة في حياتي، ولأني لم أكن أجيد القيادة جيداً، فقد نصحني البعض أن أبدأ بالسيارات المستعملة، حتى تتحمل أية أخطاء متوقعة من المبتدئين أمثالي.

لجأت إلى أحد تجار هذا الصنف في قرية مجاورة، وهو مع أقرانه خليط من ذوي العقول الفارغة الذين لم يفلحوا في أية مهنة، ووجدوا ضالتهم في بيع وتداول السيارات القديمة، وحققوا من ورائها أرباحاً كبيرة دون أدنى إجهاد للعقل.

 من يقع تحت أيديهم لا بد أن ينصبوا عليه مستغلين عدم خبرة البعض بفنيات السيارات، فيبيعونها بأعلى من سعرها الحقيقي كثيرا بعد أن يُقسم لك “يمين طلاق ثلاثة” أنه لم يكسب من ورائك، وأنه يكفيه أن يتعرف على شخصية مثلك؛ لكنك بعد أن تسير بالسيارة لمدة أسبوع تكتشف أن عمرها الافتراضي منتهٍ، وأنك شربت مقلباً محترماً.

ولأن ما تأتى به الرياح تطيـّره الزوابع، فإن معظم هؤلاء التجار يصرفون ببذخ في أمور تافهة، ليس من بينها أبداً أعمال الخير.

فوجئت ذات مرة بأحدهم يتصل بي، ويقول إنه يحتاجني في أمر مهم لا يحتمل الانتظار! انتابني القلق وسألته عن هذا الأمر، فقال وقد عاش دور واعظ دين: “تعرف أن عزيز المسيحي قرر يشتري أحد المنازل القريبة منا، وسيهدمه ليبني مكانه كنيسة.. وده طبعاً شيء ما يرضيش ربنا”؟

سألته: طيب وإيه المطلوب مني؟ فأجابني: إحنا بنجمع فلوس عشان نشترى البيت ونبني مكانه جامع.. لا يمكن نسمح لواحد زي ده ينتصر علينا.. واتبرع معانا وقول لأصحابك يتبرعوا.

 ولأني لو شرحت له وجهة نظري في الموضوع، ورفضي للمنطق المعوجّ الذي يتحدث به، فضلاً عن استحالة أن يكون هو نفسه صاحب دعوة نصرة الدين، فإنه لن يفهم ما سأقول، وقد يتهمني بغشم بالخروج عن الملة ونصرة “الأقباط الكفار”، فقد اعتذرت له على وعد بلقائه قريباً.

وبعد فترة التقيته صدفة، وقد تم بناء المسجد بالفعل، وراح يتحدث بزهو عن الانتصار الكبير الذي حققه على المسيحيين في القرية، قبل أن يستكمل مشواره المُظفّر في الوحدة الوطنية والنصب على الناس – أياً كانت ديانتهم- بسياراته المعطوبة.

ما يفعله هذا المذكور ومن هم على شاكلته من تصرفات وسلوكيات، يشكل أحد أسباب أزمة الاحتقان في مصر بين “عنصري الأمة” حسب وصف الإعلام، فكلاهما يرفع شعار “واحدة بواحدة”.. كلمة ترد على كلمة، وسخرية تواجه سخرية، وعنف ضد عنف، ومسجد أمام كنيسة؛ فلا تكاد تُبنى كنيسة جديدة حتى تجد مسجداً مقابلاً لها فوراً.

لقد ارتفع عدد الجوامع بشكل يدعو للدهشة، وزادت أعداد المصلين بطريقة تثير التعجب! أما مبعث تلك الدهشة وذلك التعجب فهو أن هذه الزيادة لم تترجم إلى سلوك حقيقي وحسن معاملة للغير، فالرشاوي منتشرة على أشدها لتصبح طقساً يومياً عند الموظفين، في ازدواجية مقيتة بين التدين الظاهري والخواء الداخلي.

ولأن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار ومضادًّا في الاتجاه، فقد ازداد قطاع من المسيحيين تزمتاً وتطرفاً، ويحاول بعضهم التحايل على القوانين ببناء مراكز إدارية ثم تحويلها إلى كنائس، وهو ما تسبب في أزمات عديدة.

لم يفكر أي عاقل في أننا نحتاج بهذه الأموال إلى بناء مدارس ومستشفيات ومشروعات خدمية ستكون أكثر نفعاً للناس.. كفانا الموجود من المساجد والكنائس، ومع الاعتراف بصعوبة الحصول على تصاريح بناء دور عبادة للمسيحيين، فإن الصلاة يمكن تأديتها في أي مكان، وسيتقبلها الله – إن كانت مخلصة- سواء أقيمت في مبنى فخيم أو على الأرض الجرداء.

هناك رجال شجعان من الجانبين يقتحمون المناطق الشائكة التي يفضل كثيرون الصمت فيها؛ أحد هؤلاء رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس، لقد قال ذات مرة بدون مواربة: “لا نحتاج كنائس أو مساجد، بل مدارس ومستشفيات”.

 ودائماً يدخل الرجل بجرأة في المسكوت عنه بشأن علاقة المسلمين والأقباط، لقد أبدى تعجبه قبل سنوات من حجم الضجة التي أحدثتها واقعة ما قيل عن علاقة حب بين زوجة قسيس وأحد المسلمين؛ وقال: “هي حُرة وربنا اللي بيحاسب، هذه قضية كان ينبغي للكنيسة ألا تتدخل فيها، وكان من الأفضل أن تترك الزوجة تخرج على الناس وتقول الحقيقة، لأن أمن هذه السيدة ليس مسؤولية الكنيسة لكي تخفيها عندها، ولكنه مسؤولية أجهزة الأمن”.

 ساويرس – القبطي- نموذج للشخصية العامة، يمكن أن تتفق أو تختلف مع بعض أو كل مواقفه، لكن الملاحظ عليه أنه لا يخشى أبداً من إبداء رأيه في القضايا العامة، ولم يُضبط يوما مثل كثيرين من نجوم البزنس ينافق أي مسؤول حرصاً على مصالحه.

 أيام مبارك كان يتحدث عن ضرورة التغيير: “لابد أن يأتي يوم حتى ولو بعد عشر سنوات نشهد فيه انتخابات حرة”. وعندما سأله أحد رجال الأعمال أيامها عن عدم ترشحه في مجلس الشعب قال: “وهل ترضى لي؟”، في إشارة ذكية لرفضه أسلوب الانتخابات وصراعات المرشحين، وما تشهده من ظواهر يراها لا تليق به، من شراء الأصوات إلى البلطجة.

ويبقى قول ساويرس إننا لسنا في حاجة إلى مساجد وكنائس وإنما الأهم بناء المدارس والمستشفيات تشخيصاً مُعبّراً جداً عن الحالة المصرية.

وعلى عقلاء الوطن أن يسألوا أنفسهم: أيكون الأجدى فعلاً إقامة المزيد من دور العبادة، أم بناء إنسان حقيقي مكتمل تعليمياً ومعافى صحياً ومُحصّن ثقافياً؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...