الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

بواسطة | يوليو 2, 2024

بواسطة | يوليو 2, 2024

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي والثقافي الإسلامي، المنبتّ عن التبعية الغربية وأصول عقيدة المادة وروح الرأسمالية، والتعصب المسيحي.

 مالك بن نبي أضاف إلى ذلك قصة العبور الإسرائيلي الأخير إلى الغرب، وعدّهُ مدرجة قديمة تاريخية، لاختراق الإمبراطورية الأوروبية القديمة حتى الدولة الحديثة، وفيه بدا مالك بن نبي مبالغاً في صورة المؤامرة الألفية اليهودية، التي أسقطها عبد الوهاب المسيري في تفكيكه لعلاقة اليهود كمجتمع في صفقة الحركة الصهيونية مع القومية العنصرية المسيحية القديمة، ثم مع الحداثة الغربية (راجع كتاب الصهيونية والحضارة الغربية).

 والحكم بينهما ليس مهمة هذا المقال اليوم، غير أن الحقيقة الكبرى التي يتفق عليها الرجلان، هي أن ميلاد الكيان الوظيفي للصهيونية، هو جزء من عملية الإخضاع الكبرى للشرق المسلم.

 اندفع مالك بن نبي في منظومة التفنيد، بسبب التحالف الذي مثلته فرنسا المستعمِرةُ للجزائر مع الكيان الإسرائيلي، وما تحدث عنه بن نبي في مذكراته، من أن الكفاح الجزائري قد وجد نفسه في مواجهة المشروع الإسرائيلي ضمن حقيقة الاستعمار المباشر عليه، الذي أشعل حرباً أمنية على الجزائريين باسم الدفاع عن السامية اليهودية، مستغلاً التموضع السياسي للحلفاء في حرب العالم الغربي الأخيرة مع ذاته المنشقة، في النازية الألمانية.

وخلافاً لما قد يفهم البعض، بأن مالك بن نبي يحمل قطيعة حضارية أو حتى سلوكية مع الآخر المختلف، تقوم على منابذة للذات البشرية الغربية، فإن مالك بن نبي في حياته، وحتى خطابه، لم يكن مطلقا مؤمناً بهذا البعد، فتاريخه الاجتماعي مع زوجته الفرنسية العظيمة، التي تحملت الصعاب والجوع والفقر ليبقى مالك بن نبي صامداً أمام حصار الفرنسيين، وبعض مواطنيه الجزائريين، ودور أمها أيضا في إسناده، مما أفاض فيه في مذكراته بامتنان.

 ويدخل في ذلك لقاءاته المستمرة ومشاركته مع جمعية الشباب المسيحيين، التي تحتاج إلى إفراد دراسة عنها، حين تصل إلى أرشيف المناقشات الفكرية التي عاشها مالك بن نبي في هذا النادي الذي لجأ إليه، فهي تؤكد هذا البعد عند مالك بن نبي، وأنهُ لم يكن يؤمن بمفاصلة عقدية مع الشريك الإنساني، ولا حتى مع أفكاره في المشترك النهضوي، التي شرّع فيها الإسلام الحكمة والتعايش، لا الحرب والبغضاء.

وكما كان حديث سعيد عن نيويورك ورفاقه، فإن روح مالك بن نبي الصلبة في مواجهة الفرانكوفونية المتوحشة، لم تكن نفساً بشعةً مختنقة تنظر إلى الديموغرافيا الأخرى بعين الحقد والانتقام من أفرادها، ولكنه كان يركز معركته على الهجوم الثقافي، الذي كان يداً بيد مع من يقتنص أبناء الشعب الجزائري ويذبحهم بسلاحه، ويسعى بكل قوته لهدم إسلامهم وخاصة عبر نقض البناء القرآني.

 وفي معركة مالك بن نبي الأخرى، جاءت الطعنات أيضاً في ظهره من داخل الشرق ذاته، من بعض روابطه وشخصياته العلمية، ولكن بن نبي تمسك بقوة بما تعنيه مفاهيم التوارث الحضاري، وأن نبذ قراءات التقدم والإنجاز في تاريخ الأمم هو مشارطة متعسفة، تُحرم عبرها القوة الإسلامية المعرفية الجديدة من البناء على ما اتصلت به الحكمة، التي يبحث عنها المسلم في كل مكان. لذلك نادى بكل قوة، بإسقاط أسوار العزل الحديدية بين الحضارات، ورأى ذلك مناقضا لفكر النهضة الإسلامية الجديد، الذي يستعد للحظة انبعاثه، وفي سبيله قدّم مالك بن نبي زهرة عمره وكل قدراته.

وحتى مرحلة العلاقات الأولى لمالك بن نبي مع خصمه التاريخي، الذي أعلنه مالك بن نبي بأنه قائد مشروع حصاره الشخصي، وهو مستشرق باريس الكبير وفيلسوف الاستشراق، لويس ماسينيون، فقد كان مالك بن نبي حين أول تعارفه معه، يرجو أن يكون لديه انفتاح حضاري منصف مع الإسلام، وأن يسعى إلى المشترك الإنساني، وأن ينظر بالفعل إلى الشرق الإسلامي كركيزة فكر آخر، وليس كشرق تراثي متخيل، ومحتبس في آنية أو قطعة تراثية أو وجبة رقص، أو حتى ترانيم روح صوفية عزفها الحلّاج، وهذه بالضبط قضية محاكمة إدوارد سعيد الرئيسية لماسينيون.

ومن النقطة والتقدير اللذين حسم إدوارد سعيد فيهما هوية ماسينيون، انطلق مالك بن نبي ففكك مهمة المكتب الثاني، الذي يرمز في مذكرات مالك بن نبي إلى مشروع التوصيف الاستشراقي العدائي للإسلام، والذي كان أحد أهم ألوية الاستعمار الفرنسي للجزائر وغيرها. ما يجعلنا نقول إن هناك مشتركاً مهماً بين إدوارد سعيد ومالك بن نبي في منظومة نقض الاستشراق، لكن التعتيم والحرب التي شُنت على مالك بن نبي من النيران الصديقة (للمرجعيات الإسلامية والوطنية)، ومن المكتب الثاني، لم يجد فيها مهندس النهضة الجزائري الفرصة التي تحصّل عليها سعيد، في معقل الرواق الأكاديمي الأمريكي.

فلقد وجد سعيد مساحة جيدة في أسرة الأكاديمية الغربية والرفاق اليساريين، رغم محاصرة سعيد ومتابعته من قبل المؤسسة السياسية والأمنية الأمريكية. هذا فضلا عن احتفالية الشرق المسلم به بعد كتابه الاستشراق، وقد أبقى سعيد روحه الإنسانية المنفتحة مع الغرب الآخر، غير أن سعيد هنا نشأ في ظل علمانية اجتماعية، وليبرالية الحياة الغربية، وانسجم معها، فيما كان مالك بن نبي يكافح في سبيل إبلاغ كلمته، ولا يجد من يفتح له الباب للجسور الإنسانية مع الإنسان الغربي، كذات وكمعرفة جدلية، تحترم اختلاف مالك بن نبي معها ومع نهضته الإسلامية، بدلاً من تصفيته سياسياً وفكرياً.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...