إلحاق بيروت بغزة.. الطوفان إذ يوحدنا

بقلم: إبراهيم الدويري

| 25 سبتمبر, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: إبراهيم الدويري

| 25 سبتمبر, 2024

إلحاق بيروت بغزة.. الطوفان إذ يوحدنا

منذ عقود كان المسلمون أشد ما يكونون فرقة وتشرذما وضعفا وهوانا وتيها، وحين أطل فجر السابع من أكتوبر المجيد، حمل صوت قائد أركان القسام المجاهد البطل محمد الضيف بوارق أمل “وحدة إسلامية”، كما زف للعالم أجمع من رباط عسقلان بشرى طوفان الأقصى، مستنهضا همم المسلمين للدفاع عن مسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو “صوت مقاتل” عابر للطوائف والمذاهب والجهات والحدود، صوت يُمثل بجهاده وإعداده ورمزيته أرضا مقدسة مباركة طالما وحدت المسلمين، ووجهت بوصلتهم عند افتراق الطرق وتشعب المسالك. 

فرغم شدة التنازع وشراسة الفرقة بين المسلمين فإن محمد الضيف  ويحيى السنوار ومن معهم من المجاهدين قد قرروا فيما قرروا منذ عقود أن ينهوا الاحتلال البغيض، وأن يضعوا حدا للفرقة والتشرذم بين أبناء الأمة المحمدية المكرمة في سبيل ذلك، فكانت خطابات السنوار في السنوات الماضية واضحة صارمة تخاطب المجموع الكلي للمسلمين، وتراهن على منابع الخيرية لدى كل مسلم، ولم يعبأ بما يعقب خطاباته من ضجيج الفارغين. 

وكان محمد الضيف ينظر بنور الله وببصيرة المرابط في سبيله حين دعا كل المسلمين لنصرة الأقصى، ودعا يوم السابع من أكتوبر بشكل خاص إخوانه  “في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”، وهذه الدعوة تنطلق من رؤية مجاهدين يؤمنون  بوجوب وحدة كل المسلمين بغض النظر عن طوائفهم للدفاع عن المقدسات الإسلامية، ولم تكن الاستجابة الحقيقية إلا من هؤلاء على مدار عام من الإبادة الجماعية الجارية في غزة. 

كما تنطلق رؤية مجاهدي رباط عسقلان من معاناة جهادية طويلة مبنية على تجارب واقعية مريرة، عرف أصحابها يقينا أن الجهاد والإعداد والاستعداد توفيق من الله لمن “سمَّاهم المسلمين”، وحقائق الشرع متعالية على مصطلحاتنا الحادثة وانقساماتنا وأهوائنا، والله يصطفي بكرامته من يشاء، وبركة الجهاد محرقة لكل الآثام؛ فأبو محجن الثقفي منذ شام بروق العز في القادسية لم تسكره الصهباء، وصوارم السيوف وأزيز الطيران الحربي ينقون ما في القلوب والعقول من شبه وشهوات، وتلك مقتضيات الشهادة. 

لا يمكن إنكار أن الحشد الطائفي بين المسلمين قائم في مناطق الاحتكاك في العالم الإسلامي بين السنة والشيعة بحق وبباطل، فحقه؛ منشأه الظلم والبغي واعتداء طائفة على أخرى، وهو مرفوض من كل ظالم بغض النظر عن مذهبه وطائفته، وحق المعتدى عليه دفع الصائل ورده والقصاص من ظالمه، وله على المسلمين نصرته في رد هذا الظلم “بعينه”، وهو حق واجب قام به المسلمون في مختلف محطات البغي ابتغاء وجه الله وشهادة بالحق لا تعصبا لطائفة.

 وللصائل الظالم على المسلمين حق النصرة أيضا إذا دافع عن مقدساتهم أو اعتدى عليه كافر ظالم، وجزاء ظلمه لإخوانه ودفاعه عن مقدسات المسلمين عند ربه، وهذا ميزان العدل الإلهي، والأمور بخواتيمها فمن ارتقى شهيدا مشتبكا مع الصهاينة مقبلا غير مدبر، منافحا عن المسرى وأهل غزة، ليس كمن نَفَقَ معتديا ظالما في بغداد أو دمشق أو صنعاء أو القاهرة، سنيا كان أو شيعيا فالظلم لا طائفة له.

 أما باطل الحشد الطائفي فهو ما تستثمر فيه أنظمة الاستبداد والطغيان وحماتها الغربيون، من زرع بذور الشقاق وسقيه بماء الكراهية والتأجيج والدعايات وتضخيم قضايا الخلافات الجزئية  إشغالا للمسلمين عن واجبات أوقاتهم الكثيرة في إقامة العدل ودفع الصائل وتحرير المقدسات.

 وهو استثمار عبثي اعتاد أهله من أهل السنة خصوصا أن ينفسوا عن أنفسهم بالصراخ وحراسة الأوهام، فلم يُعد المظلومون طائفيا إعدادا يليق بمظالمهم يردعون به المعتدين ويحمون به الأرض والعرض. ومن توهم أن الصهاينة يأخذون له ثأره من ظالميه فقد خان الشهداء، ودنس قداسة الثورة، وارتد عن مقامات الرجولة.  

حين أطلق الطوفان المبارك شُغلنا معاشر أهل السنة والجماعة برصد أفعال إيران وردود فعلها، وحين لم تنخرط في الحرب قلنا بملء أفواهنا؛ هذه معركة أراد الله أن تكون خالصة لنا دون غيرنا، ونحن لم نعد العدة لجهاد مضى عليه نحو قرن من الزمان ورايته مرفوعة، وأهدافه ناصعة، والعدو لا خلا على وجوب دفعه ودحره.

 وكانت الغشاوة الطائفية تعمي أبصارنا عن بطولات أبناء اليمن وأنصار الله الذين جادوا بدمائهم الزكية في البر والبحر دفاعا عن القدس وثأرا لأهالي غزة، كما عميت أبصارنا عن تضحيات حزب الله وهو يجود بقادته الذين شردوا سكان الشمال في كيان الاحتلال بقصف مستوطناتهم، وهو القصف الذي يحرجنا ويكشف عجزنا فكان تبخيسه أقصر الطرق لإشباع رغباتنا الطائفية. 

الآن وقد مضى نحو العام على هذه الملحمة المصيرية نرى لبنان ينخرط في الحرب بكل شجاعة، ويقصف حزب الله المدن المحتلة، وهو غير عابئ بما يترتب على ذلك من أثمان باهظة في سبيل دفاعه عن غزة وأهلها، ثم ترى الشماتة من بعضنا وهي شر الأخلاق، أما الخذلان فقد خذلنا غزة والقدس والأقصى وسوريا والعراق واليمن وليبيا وأنفسنا. 

شماتة العاجزين لا تغير  من الواقع شيئا، فكل الأحرار الصادقين مع لبنان شقيقة غزة المغدور بهما، وهما جورهتا التاج في المدن العربية والإسلامية، ومجسدتا وحدتنا التي أرساها الطوفان ببطولة الشجعان، وكانت جنازة سيد هذا العصر وشيخ الطوفان والقدس وغزة القائد الشهيد إسماعيل هنية تجسيدا لتلك الوحدة الإسلامية، وهي وحدة صلاة ووجهة نحو الأقصى ومشاعر  عظمة تجللها مدامع العجائز والعجز في طهران وعواصم المسلمين كلها.  

وهي وحدة طالما أيقظتها القدس المباركة في كل العصور، وبسرعة رصد الدارسون الغربيون مظاهر تلك الوحدة  العربية و”الجامعة الإسلامية” عقب الطوفان المبارك بأشهر قليلة، فقد كتب المستشرق البريطاني الدكتور توبي ماثيسن في فبراير الماضي مقالا لافتا في فورين أفيرز  تحت عنوان رئيسي:  “كيف أعادت غزة توحيد الشرق الأوسط؟”، وعنوان فرعي: “الجبهة الإسلامية الشاملة الجديدة قد تكون التحدي الأكبر الذي تواجهه أميركا”. 

وقد رصد توبي المختص في التشرذم الطائفي وفي التاريخ الإسلامي عموما، وهو مؤلف كتاب “الخلفاء الراشدون: ظهور السنة والشيعة”، مظاهر اختلاط الدماء السنية الشيعية عقب الطوفان في سبيل الأقصى ودفاعا عن غزة، رصدها في بيروت ودمشق وصنعاء والبحر الأحمر، ولفت انتباهه اختفاء الحدة الطائفية في المنطقة، فقال: “ما لم يحظ بقدر كبير من الاهتمام هو مدى طمس هذا الصراع الأوسع للانقسامات الطائفية التي شكلت المنطقة في كثير من الأحيان”. 

وأوضح أن الهجوم الهمجي على غزة  أيقظ “جبهة إسلامية شاملة تضم الجماهير العربية السنية، التي تعارض بشكل ساحق التطبيع العربي، والجماعات الشيعية المسلحة التي تشكل جوهر قوى المقاومة الإيرانية. وبالنسبة للولايات المتحدة وشركائها، يشكل هذا التطور تحديا استراتيجيا يتجاوز إلى حد كبير مواجهة الميليشيات العراقية والحوثيين بضربات مستهدفة. ومن خلال الجمع بين منطقة منقسمة منذ فترة طويلة، تهدد الحرب في غزة بتقويض النفوذ الأميركي بشكل أكبر”. 

وأشار إلى أن فلسطين في كل تاريخها كانت نقطة توحيد بين السنة والشيعة بسبب المكانة التي تحتلها لدى كل مسلم، ونوه بذكاء إلى أن ارتفاع شعبية حزب الله وحركة حماس مرتبطة دائما بقدر تضحيات مقاتليهم في فلسطين، ولم يغفل وهو المؤرخ ذكر تقديم الحاج أمين الحسيني وعلماء المسلمين السنة  للعالم الشيعي العراقي محمد حسين آل كاشف الغطاء لإمامة جموع المصلين في القدس يوم افتتاح أول مؤتمر للمسلمين في القدس بتاريخ 07 ديسمبر 1931م. 

فالوحدة هي الأصل بين المسلمين، والقضاء على الفرقة واجب رغم كل المرارات والحزازات، ولمُّ فلسطين للأمة نعتبره أحد تجليات البركة المبثوثة حول المسجد الأقصى وأكنافه، أما أنت يا بيروت فلم يجد جديد منذ قال شاعرنا الكبير الخليل النحوي قبل أربعة عقود:

بيروت صبرا.. ما لرهطك حيــــــــلة == إلا الكلام.. وهل يفيد كــــــلام؟

ستقاتلين العالمين وحيـــــــــــــــــــــدة == فبنو أبيك عن القتال صـــــــيام

كل الخصال ترهلت في رهــــــــــطنا == إلا الكرامة.. فهي، بعد، غـلام

كثرت مضاربنا.. وطال بـــــــــــناؤنا == فبكل سفح دارة وخــــــــــــيام!

2 التعليقات

  1. مسلم بن عبدالله

    لا فض فوك دكتور
    هذا كلام يصدر عن مشكاة النور الإلهي والتوفيق الرباني
    ليت كل مسلم يقرأ هذا المقال اليوم

    الرد
  2. أبو عبدالله

    التشيع في أصله في اعتقاد أهله كان لنصرة المظلوم ، ثم انتحله المبطلون لنشر باطلهم .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...