التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 11 أكتوبر, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 11 أكتوبر, 2024

التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة

التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ عليها القرآن الكريم، ويُعتبر أحد السلوكات المحمودة التي يدعو إليها الإسلام.

هذا الخلق الكريم هو الذي يقوض نزعة الكبر والغرور عند الإنسان، ولما كان القرآن الكريم يشدد على ذمّ الكبر ويتوعد المتكبرين، فإن التواضع هو علاج هذا الداء لدى المسلم. والتواضع مظهر من مظاهر الأدب والاحترام بين الناس، وهو في القرآن الكريم يُمثل قاعدة مهمة للرفعة الحقيقية، حيث إن هذه القيمة تجمع بين تقوى النفس وعظمة الأخلاق، وهو ما يؤدي إلى تحقيق السمو والرفعة في الدنيا والآخرة.

التواضع في القرآن الكريم يعني خفض الجناح للآخرين، والتعامل معهم بدون تعالٍ أو تكبر. وينبع التواضع من إدراك الإنسان لحقيقة وجوده في هذه الحياة، وأنه عبدّ لله كغيره من العباد، وأن كل ما يملكه من مال أو جاه أو علم هو من عند الله، وبالتالي، لا يحق له أن يتكبر أو يستعلي على الناس. قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18]. وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37]. وهذه الآيات تأمر الناس بشكل واضح وصريح بالتواضع وعدم التفاخر بما لديهم، وتذكر حقيقتهم كعبيد لله لا يملكون من أمرهم شيئا. قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا* قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا* إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن: 21 – 23].

يعكس التواضع في القرآن أيضاً مدى احترام الإنسان لحقوق الآخرين وتقديرهم، بغض النظر عن مكانتهم أو قدراتهم. فالتواضع يعزز من سمو الأخلاق، ويؤكد على مكانة الإنسان كخليفة لله في الأرض، فهو الخليفة الذي يعمل على تحقيق العدل والمساواة بين البشر، وهذه المهمة لا تتحقق بدون التخلي عن الكبر والغرور، والتحلي بخلق التواضع لله ولعباده المؤمنين.

فالتواضع صفة لصيقة بعباد الرحمن، كما وصفهم القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]. ولأهمية هذا الخلق في بناء شخصية المسلم وتهذيب أخلاقه فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بالتحلي بصفة التواضع، وعدم التكبر والتعالي، وخصوصاً أمام إخوانهم في الدين والعقيدة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]. وقال سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29].

بل إن الله تعالى وجه هذا الأمر بشكل خاص إلى سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وهو من شهد الله تعالى له بحسن الخلق في قوله سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، ورغم ذلك فقد شدد الله تعالى على التحلي بخلق التواضع في خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعين من القرآن الكريم، وذلك في رسالة لعموم المسلمين بأهمية هذا الخلق وضرورة الالتزام به، قال سبحانه: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: 88]. وقال عز وجل: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].

والتواضع يعتبر مفتاحاً لبناء علاقات إنسانية متينة ومتوازنة، كما أنه يقوي أواصر المحبة ويذيب أسباب الكراهية بين الناس؛ فمن يتصف بالتواضع ينجح في كسب قلوب من حوله، لأنهم يرون فيه شخصاً ينظر إليهم بعين الاحترام والتقدير، دون أن يُشعرهم بأنهم أقل قيمة، فيسمعون منه وينتصحون بقوله، وذلك نهج الأنبياء في دعوتهم للناس إلى الحق والتوحيد. قال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [سورة آل عمران: 159].. فالتواضع يزيد من الثقة والود بين الناس، حيث يشعر الجميع بأنهم سواسية، فلا تطغى عليهم مشاعر الحقد والتباغض أو الحسد والغيرة.

والتواضع في الإسلام سبيل مهمة للرفعة في الآخرة؛ فالله سبحانه وتعالى يكرم المتواضعين، ويرفع من شأنهم في الدارين. قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83]. وهذه الآية تؤكد على أن الرفعة الحقيقية ليست لأولئك الذين يسعون إلى العلو في الدنيا ويتكبرون ويتجبرون على الناس، بل للمتواضعين الذين يتجنبون التكبر والاستعلاء بغير الحق.

فالتواضع هو مدخل للقبول عند الله، لأنه يجعل المسلم قادراً على الاعتراف بذنبه والشعور بضعفه وحاجته لله، وهذا الاعتراف يقوده إلى الاستغفار والتوبة والخشوع، ما يعزز مكانته عند الله.. فمن يتواضع لله ولعباده ينَلْ رضوان الله ومغفرته.

والقرآن الكريم يربط التواضع وعدم التكبر بالتقوى والإيمان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: 15]. فالمؤمن يستشعر عظمة الله ويخشاه في السر والعلن، ويستحضر عجزه وضعفه، فيتعامل مع الآخرين برحمة وعدل، ويتجنب التصرفات التي تسيء إلى الآخرين أو تنتقص من قيمتهم، لأنه يعلم أن ما عنده من فضل أو مكانة هو ابتلاء من الله ليختبر سلوكه وأخلاقه.

لذلك، ينبغي على المسلمين أن يتمسكوا بهذه القيمة العظيمة، ويطبقوها في معاملاتهم اليومية، وأن يسعوا دائماً إلى التخلص من مظاهر الغرور والتكبر، لأن التواضع هو الطريق الأمثل للوصول إلى أعلى مراتب الإيمان، التي لا تتأتّى إلا بالتواضع لله ولخلقه.

د. علي محمد الصلابي

مفكر سياسي ليبي

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...