جريمة اسمها التعليم!

بقلم: كريم الشاذلي

| 26 يوليو, 2024

بقلم: كريم الشاذلي

| 26 يوليو, 2024

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: “عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا”.. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها.

ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة التعليم في واقعنا العربي عامة، والمصري خاصة.. أقف مستاءً تجاه منظومة تبتلع أهم سنوات أبنائنا نباهة ونضجًا، تأخذ منهم إبداع الفطرة لتغرس فيهم أي شيء إلا ما يحتاجونه يقينًا في مشوار حياتهم. ولا أظنني مبالغًا حين أقول إن البشر يحصلون على غالب معارفهم وثقافتهم خارج جدران المؤسسة التعليمية، وإن عددًا غير هيِّن شكلت المنظومة التعليمية لهم عائقًا، ورسخت بداخلهم ثقل المعرفة ورتابة التحصيل وكراهية المطالعة.

يحكي أحد معارفي أنه زار الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي كدارس للماجيستير، وكان أن التقى بأستاذه الذي قال له في جلستهما الأولى:

أعرف جيدًا الثقافة التي جئت منها، وأعي جيدًا مطالبك ورغباتك، ولذا أرى أنه من الأمانة أن أناقش معك ثلاث نقاط هامة؛ أما الأولى فإننا لسنا معنيين بتعليمك! وعندما قطب الوافد الجديد حاجبه مستنكرًا ابتسم الأستاذ موضحًا: “التعليم قضيتك أنت، نحن هنا نهيئ لك البيئة المناسبة، نضع بين يديك المنهج العلمي، نجيب عن أسئلتك، أما البحث والتعلم والتدقيق والمراجعة، فتلك مهمتك الخاصة”، هذا عن الشيء الأول. أما الثاني فإن الاختبار ستأخذه معك إلى منزلك، لا شأن لنا بالغش والاحتيال، صدقني.. الغش لن يدفع ثمنه سواك، لن نخسر شيئًا إذا ما كتبت من عقلك أو من نقلك. أما الشيء الثالث والأخير، فهو أنك ناجح بعد انتهاء سنوات دراستك، لا راسبين هاهنا! التقدير فقط هو الذي سيتغير، أما فكرة النجاح والرسوب، فأمر لا تشغل بالك به كثيرًا!.

يقول الرجل: كان هذا الحوار عاملًا هامًّا ومؤثرًا في حياتي، ففوق أنه أزاح عن كاهلي ثِقل الدرجة والدرجتين، والمذاكرة والامتحان، والحفظ والمراجعة، فإنه أيضًا فتح الباب أمامي لفهم المهمة التي أذهبتني إلى ما وراء المحيط، مهمة أنني لست قادمًا لنيل شهادة أعلّقها على جدار مكتبي وأتباهى بها بين الناس، وإنما مهمتي الأولى والوحيدة هي العلم.. أو بمعنى أدق “تحصيل العلم”. ثم ختم حديثه معي قائلا: ورغم كراهيتي للكتب والمطالعة، فإنني- ومنذ ذلك اليوم- لم أترك الكتاب أبدًا.

وبالعودة إلى مدارسنا، وبنظرة متفحصة متجردة، يمكننا الاعتراف بأننا لسنا على صواب! وكيف يمكن أن يكون ما نفعله صائبًا، والمرء منا يقضي سبعة عشر عامًا- على الأقل- في تعلُّم أشياء ينسى أكثرها بعد تخرجه؟

نمضي ما يقارب تسع سنوات، نتعلم فيهاـ مثلًا- اللغة الإنجليزية، ونادرًا ما يتقن أحدٌ اللغة من خلال مسار الدراسة، بينما يكفي عام واحد من الدراسة في أي مركز متخصص بتعليم اللغة، كي يقف الطالب على درجات الاحتراف نطقًا وكتابة.. وننفق أعمارنا، وجزءًا غير هين من مالنا لنحشو الذهن بمعلومات من التاريخ والجغرافيا والعلوم، غير قليل منها يتسرب وينتهي دون فائدة تُذكر.

ولأنني لم أستطع الحصول على أية أرقام أو إحصائيات لعدد من يعملون في غير تخصصهم الجامعي، فإنني سأترك لك مهمة إحصاء من تعرفهم، ممن ضيعوا أعمارهم في دراسةٍ لم تقدم لهم يد العون.

يمكنك أيضًا أن تترك لخيالك العنان لتتذكر هؤلاء الذين سكنت أسماؤهم في سجل المتفوقين، ثم تعيد الذهن لتقف على أحوالهم اليوم، كي تدرك جيدًا أن الـ 99% التي حصلوا عليها لم تكن معبّرًة عن حاجتهم الحقيقية، ولم تساعد أكثرهم في تلمس طريقه الصحيح.

إذًا، لماذا أنشئت المدارس؟!.

هذا سؤال بديهي يجب أن نطرحه للنقاش، والحقيقة أنه ليس وليد اليوم، فهو نفسه السؤال الذي طرحه المفكر الشهير “جان جاك روسو” في القرن السابع عشر، وهو يؤكد أن التعليم الذي يقدَّم في المدارس النظامية يفسد الأطفال، لما يبثه فيهم من قيم اجتماعية لا تشكل في معظمها نقاء الحياة وصفاء الطبيعة!.

وحوله أيضًا تحدث العالم الأميركي “هاورد جاردنر” في ثمانينيات القرن الماضي، وهو يطرح نظريته “الذكاءات المتعددة”، مهاجمًا ما يُعرف بمعامل الذكاء، ناقمًا من تعليم لا يكتشف الملكات الشخصية والمواهب الطبيعية، ولا يفتح أُفقًا يستوعب اختلاف القدرات لدى الأشخاص.

إن واجب المنظومة التعليمية في الأساس هو إعداد المرء لخوض معترك الحياة، وتأهيل ذهنه بالمعارف والخبرات المبدئية، كي يتكيف مع المجتمع، وتحدَّد له الخطوط الأولى الهامة في مشوار حياته.. واجبها- خصوصًا في المرحلة الجامعية- أن تنقل الطالب إلى مرحلة تتخطى الحفظ والتلقين، لتشمل الإسهام والإضافة إلى الموروث الفكري والعلمي والثقافي، من خلال دمج المُتعلم في المنظومة التعليمية، وجعله جزءًا من ماكينة ينبغي أن لا تهدأ أو تستكين إلا بالمزيد من التحصيل.. والعلم.. والفهم. فهل هذا ما تقوم به مدارسنا وجامعاتنا؟!.

خلاصة القول يا صاحبي: إن ثمة جريمة تجري ها هنا، جريمة تسرق منا أعمارنا، وتسطو على جيوبنا، وتمنعنا من حب العلم، وتبغّض إلينا الكتاب.. جريمة تقوم بها دولة لا تؤمن بقيمة العلم، ومجتمع يقيّمك بناء على ورقة هو يعلم أنها لا تساوي الكثير، وأهل يريدون أن يفخروا بتفوق دراسي يبرهن أنهم قد أحسنوا التربية!

نعم، التعليم في بلدي جريمة، شهودها بالملايين، وضحاياها بعدد أنفاس الصباح..

والهدف؟!

 أن نظل هكذا.. إذ العقل خطر، والجهل أمان!.

1 تعليق

  1. لوكا

    وفي الاخر جايبين وزير تعليم مزور جميع شهاداته

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...