مذكرات محمد سلماوي.. يومًا أو بعض يوم (2)

بواسطة | يونيو 22, 2024

بواسطة | يونيو 22, 2024

مذكرات محمد سلماوي.. يومًا أو بعض يوم (2)

والد لا يعارض ثورة أمَّمت شركاته

خسر والد محمد سلماوي كثيرًا من مشاريعه التجارية بسبب التأميم، وكذلك خسر أراضي زراعية بسبب الإصلاح الزراعي، لكنه لم يعترض في فترة حكم عبد الناصر، وهُنا أعجبني تحليل سلماوي موقف والده، فقد اندهش سلماوي كثيرًا بعد رحيل عبد الناصر، وحين بدأتْ في عهد السادات حملة الانتقادات الحادة للعهد الناصري، إذ وجد والده ينتقد هو الآخر بعض الممارسات الناصرية، خصوصًا تأميم الأعمال التجارية، ووجده يقول إن الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر في ظل الإدارة الحكومية.

وفي إحدى المرات سأله سلماوي، إذا كان هذا هو رأيه، فلماذا كانت محاولته إقناعهم يوم تأميم شركاته بجدوى هذا التأميم! فقال له والده: إني لم أشأ أن نكون على خلاف مع عصرنا، فنشعر أننا غرباء في المجتمع الذي نعيش فيه، لأننا بذلك لن ننتمي إلى عصرنا، وسنظل نشعر بالمرارة، ما سيحول دون أن نحقق أي نجاح في حياتنا. قال سلماوي له: لكنك بَدَوْتَ مقتنعًا بذلك المنطق؛ فقال الوالد: لقد شعرت بأنه من واجبي نحوكم أن أنقل لكم منطق ذلك القرار، لا أن أنقل لكم تظلُّمي منه.

‫ولقد نجحت خطة والده في ذلك بالفعل، فلم يعانِ سلماوي وإخوته من ذلك الشعور بالظلم الذي ثقل على كثيرين من أصدقاء الطفولة من طبقتهم، ممن تعرضت عائلاتهم لمواقف مماثلة، وهو الموقف الذي كبَّل حركتهم في مجتمع كانوا غير مقتنعين بتوجهاته، ومن ثم حال ذلك دون تقدمهم فيه، فالشعور بالظلم قد يؤخر اندماجهم في المجتمع الجديد.

سنوات الشباب والموسيقا

يحكي محمد سلماوي عن ولعه بالموسيقا في سنوات شبابه، إذ تعلق بالموسيقا الكلاسيكية، وبدأ جمع الأسطوانات التي كانت نادرة في ذلك الوقت بسبب صعوبة الاستيراد، وبدأ سلماوي يحضر حفلات الكونسير، والأوبرا والباليه، التي كانت تُقام بدار الأوبرا القديمة، التي احترقت في بداية عصر السادات، وكانت من مظاهر التقارب المصري- السوفييتي، الذي وصل إلى أوْجه في ذلك الوقت بتنظيم الزيارة السنوية لفرقة البولشوي للباليه إلى دار الأوبرا المصرية. ويحكي سلماوي أن البولشوي ليست فرقة واحدة، وإنما ثلاث فرق، تتفوق الأولى على الثانية، والثانية على الثالثة، وقد أخبره بعض الدبلوماسيين الأجانب، حينما عمل بعد ذلك في قسم السياسة الخارجية بالأهرام، بأن سفاراتهم كانت تتابع زيارات البولشوي السنوية في الستينيات إلى مصر، باعتبارها الترمومتر الحقيقي أو المقياس لدفء العلاقات بين القاهرة وموسكو بعيدًا عن التصريحات الرسمية للجانبين؛ فإذا بعثت موسكو بالبولشوي رقم واحد، فذلك دليل على التفاهم الكامل مع القاهرة، وإذا بعثت رقم ثلاثة كان ذلك دليلًا على فتور العلاقات بينهما.

أما ما كان ثابتًا ولا يتأثر بتقلبات العلاقات السياسية بين الجانبين، فكان المكتبة السوفييتية التي تقع بوسط القاهرة، وكان اسمها مكتبة “الشرق”، وكانت تزخر بالكتب الروسية المترجمة إلى العربية والإنجليزية.

سنوات الجامعة وكلية الآداب

كان من بين أساتذة سلماوي بكلية الآداب الناقد رشاد رشدي، الذي تعلم منه سلماوي كثيرًا، كما يحكي لنا، ورشاد رشدي أستاذ يظهر اسمه في مذكرات محمد عناني، وذكريات ماهر شفيق فريد، وعند غيرهما من الذين درسوا الأدب الإنجليزي؛ وقد درس سلماوي على الدكتور مجدي وهبة، الذي كان يهوى محاضراته عن شعر جون دان وصحبه من “الشعراء الميتافيزيقيين”، كما يسمون، والدكتورة فاطمة موسى، التي فتحت عين سلماوي على روائع الروائية “جين أوستن”.

في سنوات الجامعة قرأ سلماوي كل أعمال كافكا، وكل أعمال أوسكار وايلد، ومعظم أعمال سارتر وكامو، وكثيرًا من أعمال وليم فوكنر، وأعمال ديفيد هربرت لورانس وجين أوستن وفولبير وتولستوي وكوكتو وجبران خليل جبران، وبعض أعمال الأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان، التي لم يفهم لماذا حققت كل هذه الشهرة في سنوات الستينيات.

وتمدنا مذكرات سلماوي بعناوين الكتب العربية التي قرأها في هذه السنوات لأدباء مصريين، مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي.

قسم الأدب الإنجليزي والثقافة العربية

من الأمور التي لفتت نظري إسهام أساتذة قسم الأدب الإنجليزي في الثقافة العربية؛ فها هو المترجم محمد عناني، الذي ترجم وليم شكسبير، وجون ملتون، وإدوارد سعيد، وكتب سيرته الذاتية؛ وكذلك الناقد ماهر شفيق فريد، وله عديد من الكتب النقدية الجميلة، وترجم مقالات الشاعر ت.س. إليوت؛ كذلك أيضا عبد الوهاب المسيري الذي انطلق من محاضراته في الأدب الإنجليزي ليكتشف عوالم نقدية عن اليهود واليهودية والصهيونية، ومعه حساسية الناقد الفني، وأيضًا فاطمة موسى ورشاد رشدي والناقدة والروائية رضوى عاشور، ابنة قسم الأدب الإنجليزي، وكذلك مجدي وهبة وعبد العزيز حمودة وسمير سرحان وعبد الله الطيب وسعد البازعي والكاتب لويس عوض، والشهيد رفعت العرعير.. وغيرهم كثيرون من الذين انطلقوا من قسم الأدب الإنجليزي إلى الأدب العربي، وأسهموا في النقد والثقافة.

سنوات سلماوي في كلية الآداب

كان سلماوي يسعد كلما سمع أن الدكتور مجدي وهبة – الذي كان سلماوي يكن له تقديرًا كبيرًا- يقول عنه إنه أنْجَبُ طلبة الدفعة، وأصبح محمد سلماوي معيدًا، وكان لا يحب التدريس عن طريق شرح قواعد النحو والنطق والكتابة، لذلك كان يختار نصًّا أدبيًّا، قد يكون قصة قصيرة أو قصيدة، ويشرح من خلاله اللغة الإنجليزية.

وفي بعض الأحيان كان يختار نصًّا يتحدث عن الموسيقا أو علم النفس، أو أي من الموضوعات الأخرى التي كان يهواها ويشرحها لهم، ويذكر في سيرته أنه جاءهم ذات مرة بنُبذة عن حياة تشايكوفسكي، ومرة أخرى كان النص عن الفنان التشكيلي الهولندي فان جوخ (وتُنطق في بلده “فان خوخ”) وقصة قطعه أذنه وإرساله إيَّاها إلى حبيبته، وهكذا أصبحت دروس اللغة الإنجليزية حديثًا في الثقافة.. كان يجذب الطلبة بعيدًا عن محاضراتهم الأخرى، فكانوا يتركون مجموعات اللغة الأخرى ويجيئون إلى (السِّكشن) الذي كان يدَرِّس به سلماوي.

وحين ينظر سلماوي إلى تلك السنوات يجدها من أهم فترات حياته، ففيها عثر على شعور داخل نفسه بأنه كاتب، إذ أرقه سؤال: أنا كاتب أم لا؟ وفي المذكرات تفاصيل حصوله على إجابة تُرضيه وتشجعه لكي يكمل طريق الكتابة.

وفي هذه السنوات وجد اتجاهه السياسي الذي استيقظ على وقع هزيمة عام 1967م، وفيها أيضًا وجد حب حياته، زوجته الفنانة التشكيلية نازلي مدكور، وفي المذكرات قصة زواجه من نازلي، كتبها بقلم عاطفي يستعيد به التجربة، وتكلم فيها عن أشواقه إليها عندما سافر، وقصة تعرفه إليها وزواجه بها.

مع الأستاذ هيكل في الأهرام

في مذكرات محمد سلماوي “يومًا أو بعض يوم” فصلٌ جميل بعنوان “هيكل يخبرني أني سقطت في الاختبار”، عن تحول محمد سلماوي من كلية الآداب إلى بلاط صاحبة الجلالة، الصحافة، وفيه صورة مميزة لهيكل، رئيس تحرير الأهرام، وشهادة عن طريقة إدارته ملفات الجريدة، وكيف كانت الصحيفة تنافس الصحف العالمية.

لم تكن قد مضت إلا أشهر قليلة على زواج سلماوي حين وجد نفسه في مكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي عرض عليه أن يعمل في جريدة “الأهرام”. وكان هيكل يسعى إلى تدعيم قسم “الخارجي” بكفاءات جديدة من مختلف التخصصات، إذ كان يرى أن هذا القسم – بخلاف بقية أقسام الجريدة- يجب أن يضم كل التخصصات المهنية، فهو الذي تصب فيه أخبار العالم بكل أنواعها، وهذه الأخبار قد تتعلَّق باجتماع قمة أمريكي- سوفييتي، أو بانخفاض في سعر الدولار أمام الين الياباني، أو بزواج الممثلة مارلين مونرو من الكاتب المسرحي آرثر ميللر، لذا يجب أن يضم القسم مَن يستطيع تقييم كل نوعيات الأخبار، وربما إضافة الخلفية الخاصة بكل منها.

كان سلماوي سعيدًا بالعمل في الجامعة، لكن كان يقلقه بين الحين والآخر شبح الانعزال عن المجتمع وراء أسوار الجامعة؛ ففي مذكراته يشير إلى حرصه على ألا يكون أسيرًا لتعليمه الإنجليزي بالمدرسة، وتدريسه الأدب الإنجليزي بعيدًا عن الواقع المصري، الذي حرص على الارتباط به.

تمدّنا المذكرات بشهادة عن شخصية هيكل في الأهرام، يمكن ضمها إلى شهادة المسيري عن هيكل في مذكراته الممتعة “رحلتي الفكرية” أو شهادة عفاف محفوظ في مذكراتها عن تجربتها في الأهرام، أو غيرها من الشهادات التي ترسم دور هيكل في مؤسسة الأهرام. ما يتضح من شهادة سلماوي هو حرص هيكل على جلب الكفاءات للعمل في الجريدة، على أن ما أغرى سلماوي بالعمل في الأهرام حبه أن يحصل على فرصة عمل في إحدى أدوات صنع الواقع، بالإضافة إلى أنه كان سيضاعف مرتبه ثلاث مرات، من 20 جنيهًا إلى 60 جنيهًا.

ذهب سلماوي في الموعد المحدد للقاء “البوص”، أي الرئيس كما كان هيكل يسمَّى، ووجد سلماوي هيكل يستقبله بابتسامة عريضة وهو يقول: “هو انت بقى محمد سلماوي اللي بيقولوا عليه؟”.. لم يعرف سلماوي بماذا يجيب، إلى أن اكتشف أن هيكل لا ينتظر جوابًا.

بدأ هيكل حديثه بموضوعات بدت لسلماوي بعيدة تمامًا عن طبيعة العمل الذي كان مرشحًا له، مثل شكسبير، والدورة التي حضرها سلماوي في لندن؛ وقد دهش سلماوي لغزارة معلومات هيكل والرؤية الثاقبة التي بدت في آرائه، كما تحدَّثا عن المفاضلة بين أوبرا الإيطالي “فردي” والألماني “فاجنر”، ثم تحدث هيكل عن الأهرام والقسم الخارجي الذي سيعمل به، فقال له سلماوي: يشرفني العمل في الأهرام.

ولكن سلماوي وجد من واجبه أن يقول لهيكل أيضًا إن خلفيته كلها أدبية، واهتماماته لا تخرج عن المجال الثقافي؛ فقال هيكل لسلماوي: لهذا أريدك.. وشرح له هيكل تصوُّره عن عمل القسم. لكن سلماوي، وبما أنه بلا سابق خبرة أو حتى تصور عن طبيعة العمل الذي سيوكَل إليه، وما إن سيروق له العمل في الأهرام بدرجة تدعوه لأن يستقيل من الجامعة، فقد عرض على هيكل بتلقائية لم يحسبها أن يعمل في قسم الخارجي لمدة شهر دون أجر حتى يستطيع الحكم على هذا العمل الذي كان جديدًا عليه تمامًا، فرفع هيكل حاجبيه في دهشة لا تخلو من سخرية، وقال له: تريد أن تضع الأهرام موضع الاختبار؟!

قال سلماوي: إنها فرصة لـ”الأهرام” أن تختبرني؛ فرد هيكل: يعني اختبار مشترك؟ ودون أن يترك لسلماوي فرصة للرد، قال هيكل: يا أستاذ أنا أمام مكتبي طوابير من أبناء أكبر ناس في البلد يطلبون العمل في الأهرام، وأنت تطلب أن تختبر الأهرام لمدة شهر قبل أن تقبل بالعمل به؟ وأطلق هيكل ضحكة مجلجلة ورفع يده ليسكته قائلًا: “خلاص، حاعملك اللي انت عايزه، ونتقابل بعد شهر”.

‫كان على سلماوي أن يخبر زوجته، التي سعدت بالخبر، والدكتور رشاد رشدي، الذي لم يسعد به، وقال مستنكرًا: “حاتسيب الجامعة عشان تبقى صُحَفي؟!”.

في مذكرات محمد سلماوي شهادة عن طريقة هيكل في تطوير الأهرام وحرصه على جودة الأخبار.. وعندما طلب سلماوي أن يسافر لتغطية أحداث تخص الأمم المتحدة قال له هيكل: لكن فيه صحفيين أهم سيسافرون للتغطية، أنت تريد الذهاب للفسحة! وهنا تحداه محمد سلماوي بأنه مستعد لدفع كل تكاليف رحلته في مقابل إرسال مقالات من الولايات المتحدة، وإذا أعجبت المقالات هيكل يدفع لاحقًا تكاليف الرحلة.. وأعجبت روح التحدي هيكل، ووافق، وقال له: لكن احتفظ بفواتير إقامتك!

وفعلًا سافر سلماوي، وعاد بكثير من التغطيات المميزة، كما يحكي في سيرته، وسبق صحفي لجريدة الأهرام قبل الوكالات العالمية.

حكايات الطابق السادس

كان الدور السادس ببرج الأهرام هو متحف الخالدين، كما كان يسميه المحررون الشباب في بداية عملهم بالجريدة، إذ كان يضم مكاتب أكبر الأسماء في الوسط الفكري والفني والثقافي في فترة الستينيات من القرن العشرين.

وتعرّف سلماوي في هذا الدور إلى لويس عوض، الذي كان الوحيد من بين سكان الدور السادس الذي يهبط إلى الدور الرابع، وتعرَّف كذلك إلى توفيق الحكيم، ووقَّع سلماوي على البيان الشهير عن حالة الركود التي كانت تعيشها مصر في حالة اللا سلم واللا حرب، ونتج عن توقيعه هذا فصله من الأهرام، إذ غضب السادات من البيان ووصف الحكيم بأنه “رجل عجوز استبد به الخَرَف”، وقال إن البيان “كُتب بقلم يقطر حقدًا أسود”، ومن المفارقات الغريبة أن الوحيد الذي نجا من العقاب من هذا البيان هو كاتب البيان نفسه، لكن الحكيم عاد وأخذ مكانه مع السادات بكتابته كتاب “عودة الوعي”، الذي هاجم فيه نظام عبد الناصر.

ويحكي سلماوي قصة عن بُخل توفيق الحكيم، الذي فرح بعرض سلماوي قهوة تركية على الضيوف، ما جنّبه دفع مبلغ مالي أكبر في زجاجات المياه الغازية. وأتاح له عمله بالأهرام التعرّف إلى نجيب محفوظ، وقد أسره تواضعه الجم، وفي هذا الفصل حكايات ممتعة عن هذا الطابق وزواره.

ويحكي سلماوي قصة عندما فاز الأديب نجيب محفوظ بجائزة نوبل، إذ فرحت مصر كلها باستثناء يوسف إدريس، الذي أصيب بصدمة شديدة واعتبر نفسه الأحق بالجائزة! ولم يتردد في مهاجمة محفوظ علنًا، متهمًا إياه بـ”التطبيع مع إسرائيل”، حتى حصل إدريس على جائزة صدام حسين الثقافية في العام نفسه، واعتبرها أهم من نوبل! وكشف سلماوي في مذكراته أنه كان شاهدًا على عملية الصلح بين الأديبَين، إذ اتصل يوسف إدريس بنجيب محفوظ، قائلًا: “الكلام اللي سمعته دا أنا ما قُلتوش”، فرد عليه محفوظ ببساطة وهدوء: “وأنا ما سمعتوش”! وهنا دليل على شخصية محفوظ التي لا تحب دخول المعارك، ودليل على طريقة يوسف في الغيرة من نجاحات الآخرين.. وبالمناسبة قدَّم سليمان فياض في كتابه “النميمة” فصلًا مُهمًّا عن شخصية يوسف إدريس، التي تخرج منها الكراهية، مع تقدير منجزه في كتابة القصة القصيرة.

سنوات السجن والبحث عن ملْعقة

يتحدث محمد سلماوي في سيرته عن فترة سجنه في أيام حكم السادات، فيقول عن أحد أيام السجن: “اليوم التالي كان حزينًا، انكسرت ملْعقتي البلاستيكية التي كنت أستخدمها في الأكل، ففي حياة السجين تتخذ بعض الأشياء، التي قد لا يكترث بها في حياته في الخارج، أهمية كبيرة وهو داخل السجن؛ وقد كانت هذه الملعقة الرخيصة تعني كثيرًا بالنسبة إليّ، لأني دونها لم أكن أستطيع تناول الطعام مثل الشوربة أو الأرز أو الخضار المطبوخ بصلصة، وإدارة السجن لم تكن تسمح لنا بأكثر من واحدة! وتذكرت القول المشهور للملك ريتشارد الثالث في مسرحية شكسبير، التي تحمل هذا الاسم، الذي فقد جواده في الحرب ولم يتمكن من مواصلة القتال على قدميه، فأصبح الحصول على جواد بالنسبة إليه في تلك اللحظة أهم من أي شيء في العالم، بما في ذلك مملكته كلها، لأنه دون الجواد قد يفقد حياته ذاتها، فصاح: “حصان! حصان! مملكتي مقابل حصان! وقد شعرتُ يومها، وقد كُسرت ملعقتي البلاستيكية في السجن، بأنه لو كانت لي مملكة مثله لقايضتها على الفور، ليس بحصان، وإنما بملعقة من البلاستيك!”.

السادات وزيارة إسرائيل!

كيف ستعلم عن الخلاف بين رئيس الجمهورية محمد أنور السادات ووزير الخارجية إسماعيل فهمي حول ما سينشر في الجريدة الرسمية عن زيارة السادات للكنيست، إلا من مذكرات محمد سلماوي؟ إذ يحكي تفاصيل هذه الليلة العجيبة:

“كان الرئيس السادات قد ألقى خطابًا في ذلك اليوم بمجلس الشعب، فجّر فيه قنبلة لم يكن يتوقعها أحد، وذلك حين قال إنه مستعد لزيارة إسرائيل، وقد كان هذا هو موضوع (مانشيت) الجريدة في ذلك اليوم، لكن وزير الخارجية طلب حذف كل ما يتعلق بهذا الموضوع من خطاب الرئيس، وما إن انتهت المكالمة حتى اتصلت على الفور بالمطبعة وأبلغت محمود عبد العزيز بما حدث.

وبعد ثوان معدودة صعد إلى صالة التحرير وقال لي: ماذا حدث؟ إن وقت الطبع قد أزف.. فأعدت عليه ما طلبه وزير الخارجية، فنظر إليَّ متشككًا وهو يقول: طيب فين رئاسة الجمهورية؟ ولا مكتب الصحافة؟ فين وزير الإعلام؟ ماحدش منهم اتكلم ليه؟.. لم أجادله كثيرًا خشية أن يتصور أن لي مصلحة في ذلك، أو أن تلك مؤامرة أخرى من مؤامرات الشيوعيين التي قد تدخلني السجن مرة أخرى، ففي النهاية هو المسؤول رسميًّا عن الجريدة في تلك الليلة، وقد أبلغته بالرسالة التي تلقيتها، وله أن يتصرف كما يشاء ويتحمل مسؤولية تصرفه.

اتصل مدير التحرير بمكتب الصحافة التابع لوزارة الإعلام، وسألهم مباشرة إن كانت توجيهات جديدة قد صدرت بالنسبة لخطاب الرئيس، فنَفَوا له ذلك، فنظر إليَّ بمزيد من التشكك، وكان “مكتب الإعلام” هو الاسم الجديد لمكتب الرقابة، الذي كان يتصل يوميًّا بالصحف ليبلغها بما يُنشر وما لا يُنشر، وبعد أن أعلن السادات إلغاء الرقابة على الصحف في فبراير 1974م إثر إخراج هيكل من الأهرام، تغير اسم المكتب، لكنه ظل يؤدي مهمته القديمة نفسها، وكنا نسميه في ما بيننا: “مكتب حرية الصحافة”. وفي ضوء ما قاله مسؤول مكتب الصحافة، قال لي محمود عبد العزيز: سنستمر كما نحن، ففي غيبة توجيه رسمي بتغيير كلام الرئيس، لا أستطيع أن أعطل المطبعة.

وهمَّ بالعودة إلى المطبعة حين دق جرس التليفون مرة أخرى، ووجدت إسماعيل فهمي يسألني إن كنا قد وَقَفنا الطبع، فقلت له: لحظة واحدة! وناولت سماعة التليفون لمحمود عبد العزيز، فكرر عليه وزير الخارجية أن يُحذف كل ما يتعلق بزيارة إسرائيل من خطاب الرئيس، وبرر له ذلك قائلًا إن هذا الكلام قيل على سبيل المجاز، وإنه في حالة نشره قد يُفهم خطأ، فأخبره محمود عبد العزيز بأنه اتصل بمكتب الصحافة، التابع لوزارة الإعلام، وأنهم ليسوا على علم بذلك، فصاح فيه الوزير إسماعيل فهمي: أنا لا شأن لي بمكتب الصحافة هذا، أنا أتعامل مع رئيس الجمهورية، وهذا هو ما اتفقت عليه معه شخصيًّا.

وضع محمود عبد العزيز سماعة التليفون وقال لي: أمرنا لله، نعيد كتابة (المانشيت) من جديد.. واتصل بالمطبعة طالبًا وقف الطبع، الذي كان قد بدأ لتوه، وجلسنا، أنا وهو، نجري التعديلات المطلوبة، وكان عليه أن يحذف من الموضوع كل ما يتعلق بزيارة القدس، دون أن يُخلَّ بسياق الموضوع، وأن يغير العناوين الرئيسية للجريدة تباعًا، وأن يبحث عن صورة جديدة غير صورة عرفات – الذي كان حاضرًا إلقاء السادات خطابه بمجلس الشعب- خشية أن تُذكِّر الصورة القارئ بما سمعه في الخطاب ولم يجده في الجريدة، وكان عليَّ أنا أن أحذف كل ردود الفعل الدولية حول الموضوع، التي انهالت علينا من وكالات الأنباء كالسَّيل، وأن أبحث بسرعة عن مواد أخرى أملأ بها الصفحة.

وبعد أن انتهينا من مهمتنا ونزل محمود عبد العزيز إلى المطبعة بالـ (بروفات) المعدَّلة، رن جرس التليفون من جديد، فرفعت السماعة، وكنت على وشك أن أطمئن وزير الخارجية على أن كل شيء جرى على ما يُرام، حين وجدت على الخط رئيس الوزراء، الذي قال بصوته الرخيم: أنا ممدوح سالم .. وأخبرني أن رئيس الجمهورية يطلب نشر خطابه في مجلس الشعب كاملًا ودون أي حذف، فاتصلت على الفور بمحمود عبد العزيز في المطبعة وأخبرته بما قال رئيس الوزراء، فرد على الفور: وبعدين في الليلة اللي مش فايتة دي! ده أنا لسه مدور المطبعة! وهكذا أعدنا كل ما كنا قد حذفناه من الموضوع الرئيسي، بما في ذلك صورة عرفات التي أوحت خطأ للقارئ بأنه كان على علم مسبق بتلك الخطوة، التي أذهلته كما اتضح في ما بعد مثلما أذهلت الناس جميعًا.

وهكذا ظهرت الأهرام في اليوم التالي تحمل في عناوينها الرئيسية قول السادات إنه مستعد للذهاب إلى إسرائيل، فبدأت تداعيات متلاحقة لهذا الموضوع، الذي قلب جميع الموازين رأسًا على عقب، وكانت له عواقب وخيمة.. استقال على أثرها إسماعيل فهمي من منصبه، واستقال بعده محمد رياض، وزير الدولة للشؤون الخارجية، كما استقال بعد ذلك محمد إبراهيم كامل، الذي خلف إسماعيل فهمي في الوزارة، وقد علمت من إسماعيل فهمي بعد ذلك أنه فوجئ بإعلان السادات في خطابه أنه مستعد للسفر إلى إسرائيل، وأنه اتصل بالرئيس بعد انتهاء الخطاب مستفسرًا عن سبب إعلانه هذا الذي كان قد تصوَّر أنه قد أثناه عنه، فقال له السادات: أهي طلعت مني بقى وخلاص! فقال له إسماعيل فهمي: إذا كانت مجرد مسألة عفوية، فبالإمكان تداركها، ووعده بأنه سيتولى ذلك، وأنه سيتصل بنفسه بالصحافة لعمل اللازم.

انتهت شهادة سلماوي المهمة عن هذه الليلة العجيبة، التي قرر فيها السادات زيارة إسرائيل، وهي تعكس مدى التخبُّط في جهاز الدولة من تصرفات السادات، وتُظهر كذلك تفرُّده بالرأي والقرار.

رئيس وزراء أستراليا يحاور سلماوي قبل “الانهيار المهيب

في خريف عام 1981م، توجَّه سلماوي لزيارة أستراليا وإجراء حوار مع رئيس وزرائها الثاني والعشرين، مالكولم فريز، تعرف خلالها على ذلك البلد/ القارة، الذي كان شبه مجهول بالنسبة إليه. وقد استمتع بزيارة جميع المدن الكبرى، خصوصًا «سيدني»، العاصمة الثقافية التي زار فيها دار الأوبرا الشهيرة المطلة على ميناء المدينة، والتي يعتبر معمارها «التعبيري» المصمَّم على شكل قواقع صاعدة من البحر من أشهر الأبنية في العالم، وقد ضمته اليونسكو أخيرًا إلى قائمة التراث المعماري العالمي.

على أن الواقع السياسي، الذي تصوَّر سلماوي أنه تركه وراءه في مصر، داهمه فجأة في أثناء إجراء الحوار الصحفي مع رئيس الوزراء، بل حال دون إجرائه ذلك الحوار.. فقد سأله رئيس الوزراء بمجرد دخوله مكتبه: ما الذي يجري في مصر؟

وحين لاحظ أن سلماوي لم يفهم، أضاف: يبدو وجود حملة اعتقالات واسعة النطاق تجري عندكم. قال سلماوي: لقد قرأت صحف هذا الصباح، فلم أجد بها أي ذكر لذلك. فرد رئيس الوزراء: لا بد أنه اختلاف التوقيت الذي حال دون أن تلحق الصحف بالخبر، لكني أؤكد لك أنك ستجده في صحف الغد، فيبدو أنها عملية كبيرة.

قال سلماوي: لقد كان الرئيس السادات قد أعلن أنه عند عودته من زيارة الولايات المتحدة ستكون له وقفة مع الاتجاه الديني، الذي تصاعدت حدته في الآونة الأخيرة وتزايد لجوؤه إلى العنف. فقاطعه رئيس الوزراء قائلًا: تغيب عني علاقة شخصيات مثل فؤاد سراج الدين ومحمد حسنين هيكل بالاتجاه الديني. وبمجرد أن سمع سلماوي هذين الاسمين أصابه الذهول، فصمَت وهو لا يدري ماذا يقول، فقد أدرك أنها «عملية كبيرة» بالفعل كما وصفها السياسي الأسترالي المخضرم، الذي أضاف بعد لحظة تردد: لقد وصلتني برقية من سفارتنا في القاهرة، التي رتبت للقائنا، تلفت نظري إلى أن اسمك ورد بين الأسماء المنشورة اليوم في الصحف المصرية في قائمة المعتقلين.

نزل كلام رئيس الوزراء الأسترالي على سلماوي كالصاعقة التي كادت تُفقده الوعي، لكنه حاول التماسك، وقال له: في هذه الحالة لا أريد أن أضيِّع وقتك في إجراء حديث لن أتمكن من نشره.. أشكرك أنك قبلت أن تمنحني هذا اللقاء على الرغم من انشغالك بالانتخابات الحزبية، واسمح لي ألا آخذ مزيدًا من وقتك!

كان في ذهن سلماوي أن ينطلق بسرعة إلى الفندق ليتصل بالقاهرة محاولًا معرفة حقيقة ما يجري، لكن رئيس الوزراء الأسترالي قال له: لا، بل اجلس، فتلك فرصة جيدة لأسألك عن بعض الأشياء، إنني أتلقى بالطبع تقارير كثيرة حول كل ما يحدث في العالم، سواء من سفاراتنا أو من الأجهزة المختصة، لكن لا تسنح لي الفرصة كل يوم للقاء أحد من داخل المنطقة، بل وطرف على ما يبدو في الأزمة القائمة، كما في حالتك.

وقبل أن يتكلم سلماوي بدأ يسأله: قل لي، من وجهة نظرك، لماذا توجد هذه المعارضة الشديدة لسياسة السادات؟ وتبع ذلك أسئلة تفصيلية عن الوضع في مصر.

كل هذه الملاحظات والهوامش هي من الجزء الأول من مذكرات محمد سلماوي، وهي تدل على أهمية تلك الشهادة التي استطاع أن يجعلها ممتعة، ويجمع فيها بين التوثيق التاريخي ومتعة قراءة السّيرة الذاتية، ولقد عدت إلى قراءة مذكرات محمد سلماوي حتى أتأكد من معلومة ذكرها وأنا أكتب مقالي عنها، وقد عاد إليَّ نفس الشغف بجمال القصص التي اختارها في حياته.

لا أطيق آراء سلماوي السياسية، لكن سيرته مميزة، فقد ضمَّت شهادة على جيله.. شعرت بذلك عند قراءة مذكرات برنارد لويس، الذي برع في سرد قصة حياته، رغم أنه مستشرق متحيز ضد العرب والمسلمين.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...