عن أزمة الدولة الوطنية القُطرية عربياً

بقلم: نبيل البكيري

| 10 سبتمبر, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: نبيل البكيري

| 10 سبتمبر, 2024

عن أزمة الدولة الوطنية القُطرية عربياً

لا يمكن أن يغفل المراقب للشأن العربي عموماً حالة الأزمة، التي تضرب هذه المجتمعات في ظل مختلف أشكال نظم الحكم القائمة فيها، واشتدادها على مدى السنوات العشر الأخيرة، في ما أطلق عليها بثورات الربيع، التي كانت بمثابة شهادة فشل للقائمين على مشروع الدولة الوطنية القطرية العربية، وأنه لولا هذا الفشل الذي لحق الدولة العربية القطرية ما قامت ولا حدثت ثورات الربيع العربي من أساسها، وإنما قامت هذه الثورات بدءاً من تونس، مروراً بصنعاء ودمشق والقاهرة وطرابلس، وصولاً حتى الخرطوم والجزائر بعد ذلك، إلا تعبيراً جليلاً عن عمق هذه الأزمة .

إن أزمة الدولة العربية القطرية أو الدولة الوطنية، دولة ما بعد الاستعمار، لم يعد الكلام فيها مجرد مؤشرات وجدل من أجل الجدل، وإنما بات بياناً لواقع مشاهد، وإن عشر سنوات- بل نصف قرن- من وجود وقيام هذه الدولة القطرية كافية اليوم لإعادة النظر في كثير من الفِكَر والمسارات المتعلقة بهذه الدولة، وأين أصابت وأين فشلت، وما هي ممكنات الإصلاح في بنية هذه الدولة الوطنية القطرية.

كذلك الشأن في تحديد أساس مشكلة الدولة القطرية، في قطريتها أم في إدارة تصور هذه الفكرة من أساسها، ولماذا نجحت فكرة الدولة الوطنية القطرية في العالم الغربي والعالم ككل، ولم تنجح في العالم العربي تحديداً والإسلامي على وجه العموم؟ وهل فكرة الدولة الوطنية لم تكتمل بعد؟.. كل هذه الأسئلة وغيرها سنحاول من خلال هذه العجالة الإجابة عليها، ومقاربتها، علّنا نصل إلى تصور أقرب وأشمل لمكامن الأزمة والحل.

صحيح أن فكرة الدولة الوطنية القومية القطرية هي أحد أهم مخرجات ومنتجات مؤتمر وستفاليا، وأن هذه الفكرة انبثقت عنها فكرة الدولة العلمانية والديمقراطية الليبرالية تالياً، تلك الفِكَر التي سارت عليها وطورتها النخب السياسية في السياق الغربي، وحققت كثيراً من النجاحات التي ساهمت في تخفيف سطوة الدولة الوطنية القطرية القومية على المجال العام.

وقبل الذهاب إلى نقاش مأزق الدولة القطرية اليوم في عالم متعدد ومشرع الأبواب، لا بد من الوقوف عند فكرة الدولة نفسها.. ما هي؟ وما تصوراتنا المختلفة عنها؟ فالدولة هي محل نقاش وجدل دائم قديماً وحديثاً، فما اختلف فقهاء القانون والفكر السياسي مثلما اختلفوا حول مفهوم الدولة، ولكل طرف زاوية نظر في تعريفه للدولة ينطلق منها، بحيث تتواءم مع زاوية نظره القانونية أو الفلسفية.

فالدولة عند الفقيه والمفكر السويسري بلنتشيلي هي “جماعة مستقلة من الأفراد، يعيشون بصفة مستمرة على أرض معينة، بينهم طبقة حاكمة وأخرى محكومة”؛ بينما يذهب الفقية الفرنسي كاريه دو ملبير إلى القول إنها “مجموعة من الأفراد مستقرة في إقليم معين ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة الأفراد سلطة عليا آمرة وقاهرة”.

أما الدولة في المفهوم الهيجلي، فهي “العالم الذي صنعته الروح لنفسها”، بمعنى أنها المطلق الذي يسع كل شيء، وربما يقصد بها الشكل الكامل والنهائي للمجتمع الإنساني، بل يذهب هيجل إلى أبعد من هذا في حديثه عن الدولة بأنها مشيئة الله على الأرض، ولا يجد الإنسان مكانه أو وظيفته الحقة- بحسب هيجل- إلا إذا أفنى نفسه في الدولة، وإذا اختار العيش وحيداً فإنه سيعيش تائهاً لا وطن له، وسيبقى عبداً لأهوائه، بحيث سيكون الجزء الذي لم يتحقق في كله وهي الدولة.

والدولة هنا بحسب المفهوم الهيجلي هي تجسيد للمثل الأعلى، وعلى مواطنيها أن يحيوا من أجلها لا أن تحيا الدولة من أجلهم، وذلك أنها- أي الدولة- تجسد المثل الأعلى والخير، وغاية التطور، والتعبير الكامل عن الشيء الأسمى الذي هو العقل، وما العقل إلا الحق، بحسب جان توشار في كتابه “تاريخ الفكر السياسي”.

وبعكس هذه النظرة المثالية للدولة تماماً، يحمل الماركسيون لها نظرة سلبية جداً، فهي بحسب رأي ماركس “زائدة طفيلية” و”استخدام مفرط لكل العناصر القانونية”، بل هي أخطر من ذلك كله، فهي- أي الدولة- “أفعى من أفاعي العالم القديم”، وهي “تجمهر من الأوباش” الذين يستغلون الشعب، وهم- أي السلطات الحاكمة- مجرد “وشاة مأجورين بأجور مرتفعة جدا”، وليس هذا فحسب، بل بشّر ماركس كثيراً بقوله إن الدولة ستجد نفسها يوماً ما “في متحف الأثريات القديمة”.

أما ماكس فيبر، فتصوُّره للدولة قائم على أنها “مشروع سياسي ذو طابع مؤسساتي، تُطالب قيادته الإدارية- بنجاح تطبيقها للأنظمة- باحتكار الإكراه البدني المشروع”.. في حين يذهب هربرت سبنسر في تصوره للدولة إلى أنها “أشبه بشركة تأمين متبادلة لأغراض الحماية المتبادلة”، وتعريف سبنسر هنا هو أكثر قرباً من روح نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو.

 أما الدولة في المنظور الإسلامي، فيعرّفها ابن خلدون بأنَّها “كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا بها”. ويرى ابن خلدون أن الدولة ضرورة بشرية، لأن الإنسان مدفوع بحاجته للغذاء والدواء والكساء والدفاع عن نفسه، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق بدون وجود الدولة، التي هي ضرورية أيضا لدفع الخطرعن الإنسان نفسه، ليس من المفترسات بل من خطر أخيه الإنسان، أي إنه لا بد من وجود سلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على بعض، وهذا ما يسميه ابن خلدون بالوازع، ويسميه أرين روزينتال بالسلطة الرادعة أو القاهرة.

وبالعودة إلى مسألة أزمة الدولة القطرية، سيظهر لنا هنا السؤال: ما علاقة كل هذه المقدمة التعريفية للدولة عند جماعة من المفكرين السياسيين بما طرحناه هنا، وهو أزمة الدولة القطرية العربية اليوم؟. وهنا أقول إن أزمة الدولة القطرية اليوم باعتقادي ليست نابعة من قصور في التعريف، وغياب الفكرة والنظرية لدى الحاكم العربي ورجال حكمه، فليس ثمة شيء دون مثال سابق عليه، بمعنى أن الدولة القطرية في العالم العربي لم تكن اختراعاً عربياً، وإنما هي استنساخ عربي للفكرة الغربية نفسها، وهي دولة وستفاليا القومية العلمانية.

أي إن الفكرة والنظرية ليستا ما يعوز نخبنا الحاكمة، وإنما ما يعوز هذه النخب الحاكمة على مدى عقود من نشأة وقيام وممارسة تجربة الدولة القطرية هو كيفية تحويل هذه الفكرة إلى واقع عملي، وكيف تحضر روح الدولة في قوانينها وخدماتها، وكيف تتحول الدولة إلى سلطة للخدمة والحماية، وكيف تكون الدولة هي الإطار الجامع لكل مواطنيها، وأن عقد المواطنة المتساوية هو العقد القائم بين الحاكمين والمحكومين.

هذه هي الإشكالية التي تواجهنا دائماً في حديثنا عن أزمة الدولة الوطنية القطرية العربية الحديثة، وهي المأزق الذي وضع محدداته المفكر محمد عابد الجابري في حديثه عن العقل السياسي العربي، بقوله إن العقل السياسي العربي محكوم بثلاثية العقيدة والقبيلة والغنيمة، ويحضر أحد  أضلاع هذا المثلث أو بعضها أو كلها بشكل أو بآخر، في بنية العقل السياسي العربي حاكماً أو محكوماً، وهي ما تتفتق عنه ممارسات هذا العقل للسياسة، وضربت فكرة الدولة العربية قديماً، وهي اليوم أيضا حاضرة وتمثل تحدياً حقيقياً لفكرة الدولة الوطنية العربية الحديثة.

فلا تزال العقيدة ببعدها الطائفي حاضرة في تشكيل أزمة الاجتماع السياسي العربي، وهي اليوم أكثر حضوراً من أي وقت مضى، مع علو شأن الطائفية السياسية، فيما تحضر فكرة الغنيمة كتصور لرؤية الدولة باعتبارها غنيمة يستفرد بها الحاكم وحاشيته دون شعبه، وهذا ما تجسد في كثير من تجارب الدولة العربية الحديثة، وفشلها الذي كانت فكرة الغنيمة أحد أهم معالمه، وسقوط الدولة الوطنية العربية القطرية اليوم.

وترتبط فكرة الدولة الغنيمة مع فكرة  الدولة القبيلة أو الأسرة والعائلة، وفي كثير من هذه التمثلات تبرز أزمة الدولة العربية الوطنية المعاصرة، حيث يستفرد الحاكم بالدولة له ولقبيلته أو عائلته وأسرته، ويحولها إلى غنيمة فعلية مستحقة له ولحاشيته المحيطة به، وهذا أيضا ما قد يتجسد حتى في ظل حكم الأنظمة العسكرية، التي تتحول معها النخبة العسكرية إلى أشبه بقبيلة لها عصبيتها الخاصة، التي تحكم تماسكها وهيمنتها على الدولة، وتتصرف بها كغنيمة.

أما اليوم، فكيف يمكن تجاوز هذا المأزق العربي، وتجاوز فكرة فشل الدولة العربية الوطنية؟. أعتقد أن المسألة لا تحتاج اختراعاً من خارج فلسفة الدولة الحديثة اليوم، وهي أن الدولة الحديثة تجربة بشرية، وهي دولة مدنية ديمقراطية بالضرورة، وأي دولة حديثة لا ديمقراطية فيها ستبقى صورة لدولة ما قبل الدولة الحديثة، تتجسد فيها كل أشكال الدولة التاريخية، من ظلم وقمع واستبداد وديكتاتورية، وهو ما يتنافى مع فكرة الدولة الحديثة قطعاً.

فالدولة الديمقراطية المدنية الحديثة هي دولة المواطنة المتساوية، التي يختفى فيها الظلم والتهميش والاستبداد، وتتجسد فيها فكرة العقد الاجتماعي، الذي ينظم حياة الناس ويصون حقوقهم، ويحفظ حرياتهم ويحترم إرادتهم، وأي دولة لا تتوافر فيها هذه الأمور ليست دولة ولا وطنية ولا حديثة، وإنما هي نسخة ماضوية للدولة، وبأبشع صورها التي تجاوزها الاجتماع السياسي البشري الحديث كله.

لكن، قد يقول قائل هنا إن فكرة الدولة الحديثة نفسها لا يمكن أن تستقيم مع التصور الإسلامي للدولة، وإنه لا مكان لتلاقي فكرة الدولة الحديثة مع فكرة الدولة بالتصور الإسلامي، كما ذهب إلى ذلك المفكر الكندي ذي الأصول الفلسطينية وائل  حلاق، في كتابه الشهير “الدولة المستحيلة”، وذلك على افتراض أن فكرة الدولة الحديثة هي بالأساس تتضمن أنها دولة لا أخلاقية، فيما الدولة في الإسلام هي دولة الأخلاق بالضرورة.

بمعنى آخر، يرى حلاق “أنّ الدولة القومية الحديثة، والحكم الإسلامي، يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية، وأنّ الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينًا كبيرًا، الأمر الذي يولّد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم. وتلك الاختلافات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة، ونظرائهم في الحكم الإسلامي، إنّما تمثّل التجليات المجهرية المصغّرة للاختلافات الكونية المادية والبنيوية والدستورية، وكذلك الفلسفية والفكرية”.

ختاماً، وفي ضوء كل هذه الجدليات حول الدولة، فإن الدولة في العالم العربي في مضمونها لاتزال محكومة بأنماطها وتصوراتها القديمة التي تحدث عن بعضها محمد عابد الجابري، والبعض الآخر هو ربما ما يتم إغفاله في هذا السياق، وهو عامل مهم من عوامل فشل الدولة الوطنية القطرية العربية وهو العامل الخارجي المتمثل بأنها- أي الدولة العربية- دولة بلا سيادة وطنية وأن قرارها لا يزال رهن القوى الخارجية، وهذا ربما من أهم عوامل فشل هذه الدولة القطرية العربية، وكل دولة تحاول أن تمتلك قرارها السيادي يتم ضربها وإسقاطها، ما يعني أن عامل السيادة الوطنية عامل جوهري ومركزي في تجاوز جزء كبير من مأزق فشل الدولة الوطنية العربية القطرية اليوم.

نبيل البكيري

مهتم بالفكر السياسي الإسلامي

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...