أفريقيا المغيبة عربياً

بقلم: نبيل البكيري

| 4 سبتمبر, 2024

بقلم: نبيل البكيري

| 4 سبتمبر, 2024

أفريقيا المغيبة عربياً

أفريقيا.. هذه القارة الساحرة بكل ما فيها هي العمق الجغرافي والسياسي والاقتصادي والثقافي للعالم العربي؛ لكنها في الواقع الراهن ليست كذلك، وإنما هي قارة مترامية الأطراف والموارد، لا يعرف عنها العرب شيئاً، إلا شيئاً يسيراً من المعرفة في دوائر نخبوية محدودة جداً، من المتخصصين بالدراسات الأفريقية- على قلتهم- في العالم العربي.

فأفريقيا بمساحتها التي تقارب ثلاثين مليون كيلو متر مربع، وبسكانها الذين يتجاوز تعدادهم ملياراً ومئة مليون، هي عالم واسع مستقل بذاته. تعرضت هذه القارة على امتداد القرنين الماضيين لكثير من صنوف الظلم والاستبداد الذي جلبه الاستعمار الأوروبي لهذه القارة، التي مثلت خزان الثروات التي نهضت بأوروبا، وجعلتها في مصاف الدول المتقدمة، وقد حققت كل ما حققته بفعل ثروات أفريقيا المنهوبة.. هذه القارة البكر والمكتنزة بالثروات المختلفة، المعدنية والزراعية والبشرية أيضاً.

لكن المؤسف أن هذه القارة، التي يشارك العرب العيش فيها على امتداد ساحلها الشمالي- وهم أفارقة الهوية في إحدى دوائر هويتهم القارية، حيث إنهم عرب مسلمون أفارقة- لا يولون أي اهتمام يذكر لهذه القارة، التي يتشاركون مع معظم أهلها في الدين واللغة والتاريخ، لا لشيء سوى أن هذه البلدان العربية الأفريقية أيضا تعاني مما تعانيه دول القارة الأفريقية من نفوذ غربي واضح، يمارس سياسة التفريق والعزلة والخلافات بين دول هذه القارة.

لكن ما يفترض أنه حاصل في عالم السياسة لا يفترض وجوده في عالم الفكر والثقافة والأدب والتواصل؛ وهو العالم الفسيح الذي ساعد التقدم الاتصالي التقني في دخوله والانفتاح عليه. ومع ذلك، لا يزال ثمة قدر كبير من العزلة وعدم التواصل بين العرب وأفريقيا، التي تكاد تكون اليوم أهم محاضن الإسلام وروافده الحية، لما تشهده من صحوة ونهضة دينية واضحة لا تخطئها العين.

فاللغة العربية اليوم هي توأم الإسلام بحكم ارتباطها به كلغة للقرآن المُنزل، وجل التراث الإسلامي مكتوب بالعربية، ما جعل العربية تحتل مكانة كبيرة وعزيزة لدى غالبية المسلمين من غير الناطقين بها، وهذه المكانة التي باتت تحتلها العربية في وجدان المسلمين نابعة من مكانة الإسلام ذاته، الذي آمن به هؤلاء القوم وارتضوه لهم ديناً وعقيدة وشريعة، فلا يمكن أن يدركوا تفاصيل هذه الشريعة بغير بيان العربية لها، حيث ارتبط بها الإسلام مذ لحظة الغار، وأول آية نزل بها الروح الأمين جبريل عليه السلام، وقوله تعالى: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم}.

الحديث عن أفريقيا اليوم حديث ذو شجون، حديث نابع مما باتت تمثله أفريقيا اليوم، وتشغله في معركة الهوية الثقافية للعالم الإسلامي، والتي باتت تتهددها اليوم تحديات ثقافية كثيرة، وكيف تمكنت أفريقيا من تجاوز تلك التحديات رغم خطورتها وجسامتها، وفي مقدمة تلك التحديات ما حاوله المستعمر من تغييب وتذويب لهوية هذه البلدان، وعبثه بثرواتها وثقافتها ولغتها، وحتى دينها. ولكن رغم كل تلك التحديات تمكنت الشعوب الأفريقية المسلمة أن تتجاوز تلك التحديات، وتمكنت المحضرة واللوح ومداد الفحم من أن تغلب عشرات آلاف المطابع، والمحطات الإذاعية والتلفزة والأفلام السينمائية والمسلسلات، ومراكز الدراسات والمنح والبعثات الدراسية للجامعات الغربية.

إن مشهد المسابقات القرآنية التي تزخر بها البلدان الأفريقية اليوم، والتي تُعقد في ميادين كرة القدم، تقول الكثير الكثير عن أفريقيا التي لا يعرفها العرب، أفريقيا الحارس الأمين للهوية الإسلامية للعالم الإسلامي.. هذه المسابقات التي لغتها ومادتها كلها اللغة العربية، مثلما تحافظ وتحيي الثقافة الإسلامية هي أيضا تحافظ على اللغة العربية، وتجعلها اللغة الروحية لهذه الشعوب العظيمة، التي هزمت المستعمر ثقافياً وروحياً، وكسرت القاعدة الخلدونية الشهيرة في ولع المغلوب في تقليد الغالب.

وهذه الحقيقة هي التي صدمت أيضاً توماس أرنولد في حديثه عن إسلام المغول، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي ولكنهم انهزموا روحياً وثقافيا أمام روح الإسلام وسماحته وعدله، فما كان منهم إلا أن يعتنقوا الإسلام ديناً وعقيدة، وهم الذي أسقطوا العالم الإسلامي، ووصلوا حتى أهم عواصمه.. بغداد، وألقوا بعشرات آلاف الكتب في نهر دجلة، لكنهم لم يجدوا مفرّاً من اعتناق الإسلام في الأخير.

إن المتابع لما تزخر به القارة الأفريقية، وخاصة من ثمرات المطابع الفقيرة والقليلة، يجد ما يثير الإعجاب والدهشة من حجم الإبداع الأدبي والثقافي الذي تزخر به هذه القارة، وخاصة ما يُكتب منه بلغة عربية فصيحة. وما يثير الدهشة أكثر أن هذه اللغة، التي تمنحنا أدباً أفريقياً عربياً فصيحاً، يكتب بها من لا تمثل لهم العربية اللغة الأم، وإنما اللغة الثانية أو الثالثة التي يتحدثها هذا الكاتب أو الأديب أو الشاعر .

ولهذا كله، كم نحن بحاجة ماسة لإعادة اكتشاف أفريقيا، وأن نعيد رؤية أنفسنا- كعرب وكمسلمين- من خلال المرايا الأفريقية، فهي انعكاس حقيقي وصادق لنا كعرب ومسلمين أيضاً، ليس على مستوى الأدب شعراً ونثراً وروايةً فحسب، وإنما أيضاً على مستوى الفكر والفلسفة والنضال؛ فقد برزت أسماء أفريقية كثيرة في عالم الفكر والفلسفة والأدب، كعلي مزروعي، وممدوح ممداني، وميشل أممببي، وسليمان بشير دايان، والشيخ أنتا ديوب وهدراوي، وعبد الرزاق قرنح، والعديد من الكتاب والأدباء والشعراء من القدماء والمعاصرين، والذين لا يتسع المجال لذكرهم في هذه العجالة.

ولتجاوز حالة القطيعة، نحن بحاجة اليوم إلى تمتين جسور التواصل مع أفريقيا كلها دون استثناء، لا شرق أفريقيا أو غربها أو وسطها فحسب، وإنما كامل التراب الأفريقي. وإن اللغة العربية اليوم هي المؤهل الأقوى والأنسب لكي تكون جسر تواصل مع القارة الأفريقية العظيمة، لما  تزخر به العربية من تراث في كل المجالات، الدينية والفكرية والفلسفية والأدبية وغيرها، والعربية لا تحتاج إلا للقليل من الجهد، فهي محط حب وإعجاب واحترام الإنسان الأفريقي، لكونها لغة القرآن أولا، ولغة تمتلك من الجمال والمنطق الكثير، عدا عن كونها لغة لم تتغير ولم تتبدل منذ أكثر من ١٥ قرناً من الزمان؛ فلايزال عرب اليوم يفهمون عرب ما قبل الإسلام، فضلا عن “إنما العربية اللسان”، فكل من تحدثها فهو عربي.

فكم نحن بحاجة اليوم- كمجتمع مدني عربي- أن نتجاوز رسمية العلاقة مع الشعوب الأفريقية!. فلا نحتاج أن تكون ثمة علاقات رسمية بين دولنا ودولهم حتى نتواصل معهم، لإدراكنا وضعية حكوماتنا المكبلة. لذا، نحن بحاجة لمد جسور التواصل حتى في حالة القطيعة الرسمية بين دولنا ودولهم، لأننا شعوب يجمع بيننا الكثير من المشتركات، التي تسهل التواصل والاتصال والتفاعل والمثاقفة والتلاقح، عدا عن الحضور الواضح للعربية كلغة في كثير من فعاليات المجتمعات الأفريقية اليوم.

فالتشبيك المجتمعي على كل المستويات الدينية والثقافية والاقتصادية مهم اليوم، لبناء شبكة من “علاقات اجتماعية” واسعة مع الشعوب الأفريقية؛ فالمجتمعات هي التي تصنع النهضات والحضارات، ومن خلالها نستطيع أن نخرج من دائرة القطيعة والحيرة والارتباك، التي تسم علاقتنا بأفريقيا شعوباً وجغرافيا، أفريقيا التي هي اليوم رأس حربة معركة الهوية في مواجهة متاهات ما بعد الحداثة، وارتداداتها الكارثية على إنسان مجتمعات هذه اللحظة البشرية كلها.

ختاماً، ثمة أمل كبير بنهضة أفريقية تعم الأرجاء، نهضة تنتشل العالم الثالث كله من وهدته وعجزه، نهضة يقف خلفها اليوم شباب واعد مفعم بالوعي، متشوف للمستقبل المشرق، شباب رأس مالهم هو إيمانهم المطلق باستقلال واستقرار ومكانة أفريقيا بين الأمم، أفريقيا الحرة كاملة السيادة على أرضها وثرواتها، أفريقيا التي بدأت تضع أقدامها على طريق السيادة والرفاه والازدهار، والتطور نحو حياة حرة وكريمة، وازدهار وتقدم.

ولا يُنسى في رحلة النهوض الأفريقي هذه الاستماع للأصوات التي كان لها السبق في طرق أجراس اليقظة الأفريقية، من أدباء وشعراء ومفكرين وفلاسفة، كممدوح ممداني وحلمي شعراوي ومزروعي، هذا الثلاثي الذي ساهم في يقظة الأمة الأفريقية سياسياً، كما لا ننسى أيضاً الأصوات الشابة التي تعمل اليوم على بناء جسور التواصل والاتصال مع العالم العربي، تلك الشبيبة الأفريقية التي ترى في العربية والإسلام مادة تحرر في وجه ثقافة الاستعمار والاستلاب وبقاياها في أفريقيا اليوم.

2 التعليقات

  1. الدكتور / محمد بن حيدر - مالي

    أكثر من رائع. هكذا عودنا البكيري برشاقة الطرح وانسياب العبارات وعمق الفكرة حتى في أكثر المواضيع الأكثر تناقضًا وتعقيدا. دمت سالمًا أخي الاستاذ المفكر نبيل البكيري

    الرد
  2. محمد سعيد باه

    شكرا لأخينا المفضال د. نبيل علي ملامسة هذه القضية من هذه الزاوية المحددة ما يعكس عناية أخينا بهموم الأمة مع فهم دقيق لقضايانا المحورية وتجلياتها وانعكاساتها ثم التركيز على البعد العملي في التشخيص وفي عرض البديل.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...