الحاقة ما الحاقة؟

بواسطة | يوليو 4, 2024

بواسطة | يوليو 4, 2024

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: “وما أدراك ما الحاقة”.

العادة أن تجد الإجابة من السائل بعد قليل من الوقت إن رأى عجزك عن معرفتها؛ لكن القرآن لم يوضح ماهية هذه الحاقة، لتستمر الآيات فتأخذك إلى أجواء، لم تدرك كنهها العقول البشرية في أي زمان، بل لن تدركه كذلك مهما بلغت من الذكاء والقدرات التي هي عليها اليوم، والتي ستبلغها في المستقبل.

لهذا، وحتى يبدأ عقلك البشري في فهم مغزى الآيات الأولى من السورة، تجد القرآن يسرد لك على الفور قصص جبارين متكبرين؛ قوم عاد وقوم ثمود، ثم فرعون موسى وقرى قوم لوط، فعودة سريعة إلى قوم نوح، عليه وعلى نبينا وإخوانه الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى السلام.

حتى تفهم طبيعة هذه الحاقة، يسرد لك القرآن قصص أقوام جبارين ما ظهر مثلهم في التاريخ، عاد وثمود الذين كذبوا بالقارعة، وهو اسم جديد للقيامة، لكنك أيضاً لن تقدر على فهم طبيعة هذه القارعة كما الحاقة، ولكنك ستدرك من السياق أن تلك الأسماء تدلك على يوم قادم رهيب لا ريب فيه، ليس كأيام البشر مطلقاً، بل لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله، إلا بفطرته السليمة.. لا أقول يمكنه تخيل عظمة ذلك اليوم، لكنه بفطرته السليمة يمكنه الإيمان به وبحقيقته.

إنه الحاقة إذن، وهو القارعة، إنه اليوم المشهود المرتقب الذي لا ريب فيه عند المؤمنين، ويكفيك أن تسمع الاسمين حتى يرتجف القلب وأنت تحاول تخيّل ماهية هذا اليوم أو بعض ما فيه، وهو الذي بسبب التكذيب بحقيقته جاء أقواماً جبارين من الله ما جاءهم، وهم الأقوياء في بنيانهم المادي وأجسادهم البشرية.

الطاغية والريح العاتية  

قوم أهلكهم الله في ثوان معدودة هم قوم ثمود، أهلكهم بالطاغية التي فسرها القرآن في موضع آخر بالصيحة، التي لا تُعرف طبيعتها أو ماهية تلك القوة المادية التي أهلكت شعباً كاملاً في ثوان معدودات، جزاء تكذيبهم وعدم اعترافهم بحقيقة يوم القيامة، أو يوم البعث والنشور، والحساب والجزاء.

قوم آخرون امتد وقت تطهير الأرض من ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، عاشوها تحت وطأة ريح صرصر عاتية، قيل إنها ريح باردة مستمرة، شديدة الهبوب، تقطع الجسم البشري إن تعرض لها، وهم – أي قوم عاد- رغم قوتهم البدنية وضخامة ومتانة أبنيتهم التي كانوا يعيشون فيها، لم ينفعهم الاستتار بها ولا الخروج إلى الجبال ولا الاختباء في الكهوف، وكأنما تلك الريح هبت وهي تعرف اتجاهها نحو كل متكبر جبار، تبحث عنهم ولو كانوا في أعماق الجبال أو في بيوتهم الشاهقة، لتنسف أجسادهم نسفا.

ثم تتوقف تلك الريح بعد المدة المقررة، ليظهر مشهد الناس وهم صرعى كأعجاز نخل خاوية لا شيء فيها – كما يقول الرازي في تفسيره-؛ ووصْف النخل بالخواء يُحتمل أن يكون وصفاً للقوم، فإن الريح كانت تدخل أجوافهم، فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.

ثم يواصل القرآن سرد قصص قرى المؤتفكات – وهم قوم لوط عليه السلام- وفرعون موسى وجنده، ونهاياتهم الأليمة، ليعود مرة أخرى بالزمن إلى الوراء فيتحدث عن هلاك قوم نوح، ودعـوته سبحانه للبشرية لشكر الله على أن أبقى أصولهم عبر من كانوا على متن سفينة نوح عليه السلام، من أجل أن تبدأ البشرية مسيرة جديدة وفق فطرتها التي فطر الله الناس عليها، توحد الله ولا تشرك به شيئاً، وتؤمن باليوم الآخر، لا تشكك فيه أو تكذبه.

القيامة.. قمة العدالة   

كل تلك المقدمات من القصص، وبشكل بياني قصير معجز، إنما الهدف من سردها هو تهيئة نفس القارئ للقرآن والمستمع إلى آياته، مسلماً كان أو غير مسلم، للإيمان الجازم والقاطع بأن القيامة حق، وأن البعث والنشور والحساب والجزاء حقائق لا يجوز أبداً التشكيك فيها أو تكذيبها. وما لقي أولئك القوم مصارعهم الأليمة، إلا جزاء تكذيبهم أو حتى تشكيكهم بتلك الحقائق.

ما خلق الله البشر ليعيش أحدهم حيناً من الدهر يستمتع بحياته، ويصول ويجول فيها – سواء عدل فيها أم ظلم هذا وذاك وتلك- ثم ينتهي بموته وفنائه ولا شيء بعد ذلك! لا.. لا يمكن أن يحدث مثل هذا، بل هذا معاكس للمنطق السليم، وخاصة إن تأملنا علاقات البشر بعضهم ببعض وهي متداخلة متشابكة، فيها حق وباطل، وظلم وعدل، وغيرها من المتناقضات، فهل يعقل أن تنتهي كل تلك المتناقضات دون مراجعات ومحاسبات؟ لابد إذن أن يتبع كل تلكم الأمور الدنيوية حساب وجزاء أخروي؛ المحسن يجازى على إحسانه، والمسيء على إساءته، وهذا بالطبع لا يكون إلا في يوم محدد علمه عند ربي، يجتمع فيه البشر جميعا لذلك الغرض.. وتلكم هي العدالة الإلهية.

ما الذي يجعل المظلوم يصبر على ظالمه في دنياه؟ وما الذي يجعل الظالم يتجبر ويستمر في ظلمه ويزداد عدد ضحاياه؟ لا شك أن الأول -المظلوم- يؤمن ويدرك بفطرته السليمة أن هناك يوما قادما لا محالة، يقتص فيه من ظالمه، وهذا ما يجعله لا يرد الظلم بالظلم، بل يصبر ويحتسب.

أما الثاني وهو الظالم، فإن كان غير مؤمن بدين محمد – صلى الله عليه وسلم – فلأن فطرته فسدت بفساد ابتغائه غير الإسلام ديناً، تجده لا يؤمن بيوم حساب وجزاء، وبالتالي يترتب على ذلك استمراره في ظلم الناس وأكل أموالهم وحقوقهم بالباطل، والإفساد في الأرض؛ وأما إن كان مسلماً وفي الوقت ذاته يظلم الناس، فلأن السبب إيمانه الهش الضعيف المتهالك بالآخرة، وبالحساب والجزاء، مع سوء فهم لطبيعة وهدف هذه العاجلة وحياته فيها، وفهم أسوأ لطبيعة الآخرة، أعاذنا الله وإياكم من تلك النوعية الفاسدة السيئة من فهم الدنيا والآخرة.

خلاصة الحديث

ما نرومه من كل ما ذكرناه آنفاً هو بيان أهمية ممارسة فعل التفكر والتأمل في الآيات المسطورة في القرآن، والآيات المنظورة في الكون والحياة. ومن تلكم الآيات المسطورة كثرة ذكر القرآن لمصارع الأقوام المتجبرة المتكبرة، وتكرارها بصور ومشاهد متنوعة، والداعي لذلك أن نعلم وندرك أن تلك القصص ليست للتسلية والمتعة، بل للعظة والعبرة، وأهمية الاستعداد لذلك اليوم بكل الطرق والوسائل، والذي ذهبت ضحية تكذيب حقيقته ألوف مؤلفة من البشر – من لدن قابيل حتى يوم الناس هذا- على شكل ظالمين، وضحاياهم من المظلومين.

جعلنا الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...