مشروع الراشد العلمي في سياقه الفكري والحركي (1)
بقلم: إبراهيم الدويري
| 3 سبتمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: إبراهيم الدويري
| 3 سبتمبر, 2024
مشروع الراشد العلمي في سياقه الفكري والحركي (1)
من سماء بغداد وحواري أعظمية النعمان طلع بدر عراقي مضري عام 1354هـ، فأضاء أفق الدعوة الإسلامية المعاصرة بمشروع علمي، أحكم أسسه الحركية والتربوية بمحكمات الوحي وفهوم الصحابة والتابعين، واستثمر في معالجاته الفكرية ما رواه الأصحاب والطلبة من عقلية بلديِّه الإمام الأعظم أبي حنيفة، وفقه مالك المتبع، ومنهجية الشافعي المنضبطة، وأثرية ابن حنبل الواعية، وإخوانهم من الفقهاء والمحدثين.
كما أخذ المشروع من أقوال الإمامين، الحسن البصري والجنيد، وتجارب السالكين إلى الله “رقائق” تُقَوِّم “المسار”، ثم اقتبس من مدونات الفقه والتاريخ والتراجم والأدب والشعر والحِكَم السيَّارة أسسا لـ”المنطلق”، وأضفى على “صناعة الحياة” من أفكار المصلحين- من ابن تيمية إلى حسن البنا- ما شدَّ أبناء الجيل “نحو المعالي”، وفتح “عيونهم” على خصائص “العمارة الدعوية”، ومناهجها التربوية، ورؤاها التطويرية، وأصولها الاجتهادية التطبيقية.
فقد كان الفكر الإسلامي والتنظيرات الحركية قبل محتسب الدعوة ونبيلها ومجدد فقهها، الشيخ محمد أحمد الراشد، كليات عامة مصوغة بأسلوب بعضه سجالي، فلما أمسك أبو عَمَّار القلم -وهو القارئ النهم الذي جَرَدَ الموسوعات الطوال في كل الفنون- جمع لها من الشواهد والأدلة والحكم والتجارب، وأضاف له من علوم العصر، وعميق فهمه وجزالة أسلوبه وثمار تجربته العملية الثرية، ما أرجع تلك الرؤى الإصلاحية والحركية إلى أصولها التراثية، فأضحت بذلك محكمة البناء المصطلحي، أصيلة النسب في بيئاتها الإسلامية الأولى، ومنتمية لزمانها المعاصر، ومؤثرة بوقعها في ميادين الدعوة وكفاح المصلحين.
يرى الراشد أن الدعاة هم الورثة الشرعيون لتراث السلف بأصنافه المختلفة، وأنهم الأحق بالنهل من حِكَمه، والاستفادة من تجارب أصحابه في صياغة الأعمال والمشاريع الدعوية والإصلاحية وفق “رؤى تخطيطية” واقعية، وهو بذلك التأصيل المحكم الواسع البنَّاء لم يفتأ يقارع صنفين من الناس؛ أولهما جماعات التدين التقليدي المتعصبة لكتب وتجارب المتأخرين، والمتصدية لكل تجديد وإصلاح، والثاني تيارات العملنة المنفلتة النافرة من كل تجديد ينطلق من الإسلام حصرا وتجارب علمائه، فكان التأصيل الراشدي هدما للقيود والسدود التي حاول هذان الصنفان وضعها في وجه المصلحين وأفكارهم.
فلئن كان الإمام المبرور، العلامة يوسف القرضاوي، أقام المذهب الإصلاحي فقها وتأصيلا وتمكينا في النفوس، فإن الشيخ الراشد “رصد نفسه للدندنة على كل معنى تربوي يقود إلى تحليق الأرواح نحو المعالي”، فعاد من تلك الدندنة المباركة بالدرر والنفائس، مجددا فقه الدعوة في “المنطلق” و”العوائق” و”الرقائق”. وهي ثلاثية من باكورات أعماله تدور تنظيميا وحركيا على ثنائية التحلي والتخلي لدى أساطين التربية وأرباب فقه السلوك، وهي ثلاثية مباركة انحنت عليها ظهور، وتدارستها جموع الشباب في كل القارات، وخرَّجت أجيالا متباعدة الأعمار؛ فألحقت الأصاغر بالأكابر.. وفي مؤتمر تأبينه المنعقد بإسطنبول شواهد على عظمة ذلك الأثر الموفق، والتاريخ المشرف، والعطاء المبهج.
لم يقتصر عطاء الراشد على الثلاثية التي أضحت متونا حركية ودعوية، يستظهر الدعاة فقراتها وفِكَرها، فقد كان سيال القلم مدرار الفكر، “ملذوع الفؤاد” بهموم دعوته وأمته، يستشعر أمانة الكلمة، ويدرك صعوبة الواقع وحقيقة التحديات، فكان القلم رفيقه في الحل والترحال، موجها وناصحا ومنظرا ومستشرفا، فترك مشروعا علميا مكتمل الأركان، وهو مشروع لا يمكن استيعاب الخطاب الإصلاحي الحركي المعاصر من غير العودة إليه، ورصد آثاره في نفوس الشباب والشيوخ خلال العقود الستة الماضية وقادم القرون.
لم يكن الراشد يكتب للتسلية أو يسوّد الدفاتر حذلقة وفراغا، فقد كان الهم الدعوي يهيمن على فكره ومشاعره وحركاته وسكناته وسجنه وحريته وسرائه وضرائه، وكان بصفته الاحتسابية والريادية يرصد الفتوق في “المسار” الدعوي ثم يسعى لرتقها ومراقبة آثار الرتق، فأنتج ذلك الهم وتلك المراقبة مشروعا علميا حافلا متكاملا تبدو معالمه واضحة لكل من صحب كتبه أو جالسه، وأدرك مفاتيح شخصيته وعاش معه جزءا من همومه التربوية والإصلاحية.
أوضح الشيخ الراشد نفسه معالم مشروعه العلمي والدعوي في مقدمة “عبير الوعي”، وهو مشروع يدور كله على “فقه الدعوة” الذي استولى على اهتمامه، فكتب عنه تأسيسا وبناء وتخطيطا وتدريبا؛ فـ”المنطلق” عنده تأسيس للعمل الدعوي من الناحية النظرية، وبيان أدلة وجوب الدعوة إلى الله، وكانت “الرقائق” و”العوائق” و”تهذيب مدارج السالكين” و”مواعظ داعية” مركزة على المناحي التربوية والأخلاقية، ومن هذا القسم كتابه “نقى الإحياء”، وهو آخر ما كتب تهذيبا لإحياء علوم الدين، متمنيا أن يكون جليس كل داعية ومربٍّ في القرى والمدن.
ولما أقام مذهب فقه الدعوة، بان له أنه يحتاج إلى تأصيل بإرجاع قضاياه المعاصرة إلى أقوال السلف وأجيال القرون الإسلامية الأولى؛ فكتب موسوعته الكبرى “أصول الإفتاء والاجتهاد في نظريات فقه الدعوة” بأجزائها الأربعة، تأصيلا لهذا المذهب الجميل، وهي أجزاء حافلة يمكن اعتبارها ذروة أعماله الفكرية بما جمع فيها من حسن الاستنباط والتوظيف، وخبرات المصلحين في ميادين الدعوة.. ويكفي هذه الموسوعة شرفا أنها كانت آخر ما يقرأ الشيخ الشهيد أحمد ياسين، موقظ ضمير الإسلام في أكناف بيت المقدس.
ولما اكتمل المشروع، أدرك الراشد حاجة مذهبه في فقه الدعوة إلى تخطيط، فجاء “المسار” و”منهج التربية الدعوية” و”رؤى تخطيطية”، وبعض رسائل العين، متعاضدة متناصرة لفقه التخطيط الدعوي العام، وأكمل ذلك برسائل في “العين” للتدريب والتطوير على تلك الخطط، وكشف في “سبائك السبكي” و”الفقه اللاهب” عن مدى توافق الفكر السياسي الإسلامي المعاصر مع اجتهادات الأقدمين، وأشبع بذلك نهمه التأصيلي.
ولم يكن العراق وقضاياه ليغيبا عن قلم البغدادي الأصيل ابن الأعظمية؛ فكتب “بوارق العراق” عن أخبار الجهاد المعاصر وفقهه في عالم معقد، مع رسائل أخرى عن الجهاد والقضية العراقية، كما لم تغب فلسطين و”رمزياتها الحماسوية” عن ثنايا كتبه، ومثلها قضية سجناء الحرية في عالمنا الإسلامي، فكتب “آلام صحراوية” عن طلابه المستثنين من التسامح الإماراتي، وتناول حسرة “الردة عن الحرية” في الكنانة، مع رسائل أخرى يعيد فيها ويبدي عن الشمول الدعوي، والتطوير التنموي والاجتماعي، ونشاط الدعوة في عالم تنافسي .
وهذه الأعمال الكثيرة المبتكرة كتبها الراشد المرهف متأثرا بالتاريخ والجغرافيا، وطبائع البشر، وتجارب الدعاة، وبصفاته النفسية، وذلك موضوع نفصله في الجزء الثاني من المقال التأبيني لهذا العملاق، الذي غادر عالمنا يوم 23 صفر 1446هـ في فترة كثر فيها رحيل العظماء ورواد الإصلاح.
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
احسنت وأجدت بأسلوب دقيق رائق