وانتصر سيد الطوفان يحيى

بقلم: خالد صافي

| 18 أكتوبر, 2024

بقلم: خالد صافي

| 18 أكتوبر, 2024

وانتصر سيد الطوفان يحيى

“حين نُقتل في سبيل الله لا نموت”..

قالها الرجل مستغربًا من وصوله إلى الستين من عمره ولمَّا يقضِ شهيدًا بعد، هو لا يريد أن يُقتل فطيسًا، ولا يريد أن يموت على فراشه في جائحة كورونا، أو كما يموت البعير، هو رجل يريد شهادة مفصّلة على مقاسه وبمعاييره!

لا يمكنك أن تقف أمام مشهد وفاته إلا مؤدّيًا تحية عسكرية مبجلة لنهاية رجل قضى كما كان يتمنى، سلام عليك يا سيد الطوفان ومشعل الثورة، وقائد مسيرة التحرير، طبت حيًّا وطبت أسيرًا محررًا، وطبت يوم قضيت إلى ربك شهيدًا مقبلاً غير مدبر.

خاتمة تليق بقائد

“أكبر هدية يمكن أن يقدمها الاحتلال لي هو أن يغتالني”..

انتظر السنوار طويلاً حتى نال الهدية من عدوه، لذا تراه هو الذي انطلق إليه مشتبكًا علّه ينال خاتمة تليق به كقائد، كان يمكن للاحتلال أن يأخذ جثته ويلفّق نهاية تناسب غروره، وينشر سيناريو يدّعي فيه زورًا تفوقه العسكري وسطوته وقوة استخباراته، ولكن غياب المعلومة ونشوة اللحظة وتسريب الجنود للمشاهد الأولى للحدث أضاعت على الاحتلال ذلك كله بتقادير الله.. وخرجت صورة الرجل حاملاً بندقيته، ومرتديًا كوفيته وجعبته، ومصابًا في أكثر من موضع من رأسه وجسده.

وفي المقابل، لو أن المقاومة هي التي سبقت الاحتلال إلى مكانه، واستحوذت على جثمانه، وقالت إنه استشهد في اشتباك مع جنود الاحتلال، لشكّك في قولها المغرضون، ولمز المفرطون، وكذّب المرجفون، ولكن الله أرادها خاتمة مشرفة بيد أعدائه؛ لتعرف الأجيال أنه قضى مدافعًا عن وطنهم وأرضهم وحقهم حتى آخر قطرة من دمائه..

اشتباك لا اغتيال

وما يدريك؟ لعل اشتباكه الأخير لم يكن اشتباكه الوحيد؛ فقد بقي في رفح بعدما نزح أهلها ليقود المقاومة، ويدافع هو وجنوده عن شرف أمة انبرى المثبطون فيها باتهامه بالهروب والاختباء في نفق محصن، بينما كان يقود المعركة على الثغور مجاهدًا، يسابق الشباب على الصفوف الأولى، يرتدي بزته العسكرية وهو ابن الستين، ويربط على جرح يده ويقاوم رغم شيبته، ولم يترك ميدان القتال ولا ساحات التفاوض والسياسة.

هو أدار المعركة من بدايتها حتى نهاية عمره، وأذاق عدوه الحسرة، وساق جنوده لخاتمة يريدها لنفسه، حتى في آخر لحظات حياته كان هو المتحكم في زمام المعركة، فتلثم وأخفى ملامحه عن المسيّرة، ورماها بعصاه مستفزًّا، لو علم جنود الاحتلال (التيك توكرز) أنهم عثروا عليه لحرصوا على أسره حيًّا، وأخرجوه عاريًا، والتقطوا معه صورة “سيلفي” تُظهر تشفّيهم وإذلاله، ولكنه ضيّع على أعدائه نشوة الانتصار؛ فلا هم رصدوه ولا أسروه ولا اغتالوه، بل قاتلهم حتى آخر رمق كي ينال شرف الشهادة مشتبكًا.

استشهاده إدانة لهم

على مدار عام كامل جنّدت دولة الاحتلال طاقاتها وقدراتها، وجنودها وكوادرها، وحلفاءها وعملاءها واستخباراتها، للوصول إلى معلومة عن مكانه، أو خيط يدل على تحركاته، وفي طريقهم لتحقيق ذلك قصفوا المدارس والمستشفيات، ودمروا كل شيء فوق الأرض وتحتها، ليصطدم به جنود الاحتلال في نهاية المطاف (صدفة) وهو يقاتلهم، ثم يفضحهم باستشهاده فوق الأرض، وهم الذين أشاعوا اتخاذه الأسرى دروعًا بشرية تحت الأرض، واحتماءه بالمواطنين في مراكز الإيواء وخيام النازحين.

ويأبى أن يرحل قبل أن يُلحق بالعدو فشلاً سياسيًّا وعسكريًّا مضاعفًا؛ لم يكن موجودًا في خيام النازحين، ولا في مراكز الإيواء، ولا المدارس ولا المستشفيات، ولم يعرف مكانه الشاباك ولا الموساد، ولا الجيش ولا الاستخبارات، ولا الجنود ولا الأمريكان ولا الحلفاء، فكان قتلهم أربعين ألف إنسان في تلك الأماكن دليل إدانة دامغًا على جرائمهم لو أن في العالم عدل.

قل للشامتين

لا يفرح باستشهاد القادة المجاهدين إلا منافق متصهين، ماذا بين السنوار وبين ربه من خبايا كي لا نسمع له صوتًا لعام كامل، ولا نرى له صورة إلا صورة العز في ميدان القتال؟ صورة أرادها الله بأيدي أعدائه لتجعل حياته أطول من حياة قاتليه، صورة يندم الاحتلال أن سرّبها جنوده لسيد الطوفان وهو يمتشق سلاحه ويحتضن جعبته، ويخوض معركة العز والشرف والكرامة، ويكتب لنفسه وللمقاومة ولقادتها تفويضًا بالدم، وشرعية صاغها بالعز والفخر والاعتزاز، تاركًا للاحتلال والأعراب والمطبعين الخيبة والصدمة والذل والعار، ولعنات تطاردهم حتى قيام الساعة؛ فهم أعوان القتلة، والأعراب أشد كفرًا ونفاقًا حين يقفون إلى جانب من قتلوا قبل يحيى زكريا ويحيى، وسائر الأنبياء والشهداء والقادة المصلحين.

نجم أكتوبر 

سلام عليك يا يحيى يوم ولدت، ويوم أُسرت، ويوم تحررت، ويوم أطلقت الطوفان، ويوم تموت ويوم تبعث حيًا، أكتوبر كان شاهدًا على محطات مفصلية في حياتك من مولدك في خان يونس في 29 أكتوبر 1962، ‏وخروجك من السجن في صفقة تبادل الأسرى (وفاء الأحرار) في 18 أكتوبر 2011، ‏وإطلاقك شرارة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، ‏واستشهادك مشتبكًا في رفح في 16 أكتوبر 2024.. ارتقى نجمك في أكتوبر ليخلد في سماء المجاهدين.

إن قُتل زيد فجعفر

اللحظات الأخيرة للقائد يحيى وهو يتقدم الصفوف الأمامية دليل على صوابية الخيار، قاتل بشرف وفخر من الخطوط الأمامية، ومن نقطة الصفر رفع سلاحه في وجه أعدائه، واشتبك فارس المعركة وهو المطلوب الأول، كالأسد الهصور في ساحات الوغى، لم يعرف التقهقر طريقًا إلى قلبه، سقط جسد يحيى لتحيا روحه فوق تراب المعركة كيما تشهد مع الأمة نصرًا قريبًا.

مات أبو إبراهيم وقلبه معلق بالسيف والجهاد، بالشوك والقرنفل، بالأسرى والمسرى، رحل السنوار بعد صديق عمره هنية، كما رحل الرنتيسي المقدام بعد أحمد ياسين المؤسس الإمام، وسيخلف القائد قادة؛ فإنما “نحن نعمل بإرادة الله وعلى عينه، يخلف القائدَ قادة، والجنديَّ عشرة، والشهيدَ ألف مقاوم، فهذه الأرض تُنبت المقاومين كما تُنبت الزيتون، وتُورّث الإباء للأجيال كما ورثته من آلاف الأنبياء والصحابة والصالحين والمجاهدين”.. كما قالها أبو عبيدة.

يا رجل المفاجآت 

يا أشجع فرسان أمتنا، طريق الأحرار لنا رسمت.. يا أيها المتوشح بالمجد، جميعهم تساقطوا لمّا ارتقيت، تراجعوا وصمدت، ترددوا واقتحمت، تهاووْا وسموت!. اضرب بعصاك الكفر فما جبنتَ ولا توانيت، أطلق طوفان الأقصى وارقب فينا النصر حين رمينا وحين رميت، جميعهم هُزموا ووحدك انتصرت.

4 التعليقات

  1. هدى يوسف

    سلمت يمينك …النصر للعرب والمسلمين

    الرد
  2. اسماء اليمني

    مقال رااااائع جدا ووضح فيه كل النقاط في استشهاد سيد الطوفان القائد البطل يحيى السنوار
    رحمك الله ياسيد الطوفان قلوبنا تنزف دماً برحيلك لكن فرحون لك بهذه الخاتمة العظيمة ولا نامت اعين الجبناء

    الرد
  3. اسماء اليمني

    مقال رااااائع جدا ووضح فيه كل النقاط في استشهاد القائد البطل يحيى السنوار
    رحمك الله ياسيد الطوفان قلوبنا تنزف دماً برحيلك لكن فرحون لك بهذه الخاتمة العظيمة ولا نامت اعين الجبناء

    الرد
  4. بنت حسن Bibila

    كلمات تُثلج الصدر بعد صدمة سماع هبر استشهاد الرجل وأي رجل يحي السنوار رحمو الله عليه..

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...