لأن الذاكرة أداة مقاومة.. ما زال النسيان هو آفة حارتنا

بقلم: سعدية مفرح

| 12 نوفمبر, 2024

بقلم: سعدية مفرح

| 12 نوفمبر, 2024

لأن الذاكرة أداة مقاومة.. ما زال النسيان هو آفة حارتنا

يقول نجيب محفوظ في رائعته “أولاد حارتنا”: “ولكن آفة حارتنا هي النسيان”… جملة عميقة تختصر مأساة الأفراد والمجتمعات التي يعتريها ضعف الذاكرة، وكأن النسيان غيمة سوداء تحجب عن الأنظار دروس الماضي، وتترك البشر رهائن اللحظة الراهنة. إنها ليست مجرد جملة عابرة، بل هي بمثابة مرآة تعكس واقعًا يمتد عبر الأزمان، حيث يُعاد إنتاج الأخطاء نفسها، ويتوارى الحق خلف غبار الذكريات المتناثرة.

حين تنسى المجتمعات ما مرت به من أزمات، تصبح أشبه بمن يسير في دوامة لا مخرج منها، حيث تتكرر المآسي بلا وعي أو إدراك. والتاريخ مليء بالأمثلة التي تؤكد هذه الفكرة؛ فكم من حروب ظالمة أُشعلت بعد أن غفل الناس عن دروس الحق، وكم من طغاة وجدوا لأنفسهم مواطئ أقدام فوق رؤوس شعوب نسيت قسوة الاستبداد. فالنسيان في هذا السياق ليس فقداناً بريئاً للذكريات، بل هو خيانة جماعية للماضي، إذ تُمنع المجتمعات من الاستفادة من تجاربها.. ثم تمضي إلى المجهول وكأنها تمضي إلى حتفها.

ولأن المرء بطبيعته يميل إلى الهروب من الذكرى المؤلمة، فهو يتفنن في طمس الحقائق التي توجع القلب، لكن المفارقة أن نسيان تلك الذكريات لا يعفيه من عواقبها، بل يكررها لاحقا.. ودائما. وكأن نجيب محفوظ رحمه الله في مقولته  أعلاه كان يدق ناقوس الخطر: من ينسى معاناته، يُجبر على خوضها مرة أخرى.. وبأقسى من المرة الأولى.

في رواية “أولاد حارتنا”، يعيش أهل الحارة تحت وطأة الظلم، ولكنهم ما يلبثون أن يتأقلموا معه، ويتناسوا ما ذاقوه من مرارات. هنا يصبح النسيان أداة خطيرة؛ إذ يساهم في تطبيع القهر، ويغرس في النفوس قناعة زائفة بأن الظلم قدر لا مفر منه. هذا النمط لا يقتصر على الأدب، بل يتجلى في واقعنا اليومي؛ حين نرى أجيالًا تنشأ في بيئات خانقة وظالمة ثم تُقنع نفسها بأن هذا هو الطبيعي، فتتآلف مع الظلم بدلاً من مقاومته أو التفكير بدفعه مستقبلاً.

ولذلك يمكن القول إن النسيان، بأشكاله ومستوياته المختلفة، هو العدو الأول للمقاومة؛ لأنه يطفئ شرارة الغضب التي تحفز المرء على التغيير.. فكم من حقوق ضاعت لأن أصحابها نسوا أو تناسوا، وكم من طموحات ماتت في مهدها لأن ذاكرة المجتمع لم تحتفظ بأحلام الكبار الذين سبقوا، وكم من أحلام تلاشت لأنها ذابت في لجة النسيان!. وهكذا.. فحين يغيب الوعي المرتبط بالتاريخ والظلم، تصبح المطالبة بالعدالة شيئًا أشبه بسراب بعيد المنال بل لعله مستحيل!

على المستوى الفردي، يبدو النسيان أحيانًا مهربًا ضروريًّا.. فكيف للإنسان أن يعيش وهو مثقل بأحمال الماضي، يجرها وراءه بكل خطواته إلى الأمام؟ لكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين يتحول النسيان من فعل مؤقت إلى نمط حياة.. حين يُفقد الإحساس بالزمن، وتتلاشى المسؤولية تدريجيًّا، سواء تجاه الذات أو الآخرين، فيصبح الفرد رهينًا للحظة الآنية، غير معني بما فات أو بما سيأتي، وكأن الحاضر هو كل شيء. فيصبح هذا الفرد كالمنبتِّ عن حقائق الواقع ومنطق الحياة!

أما على المستوى الجماعي، فإن النسيان يشبه مرضًا يُصيب الوعي الجمعي، فيغمر الناس في غفلة!. تفقد المجتمعات ذاكرتها الحية التي تحفظ حقوقها، فتبدأ أفعال المقاومة بالتراجع، وتتحول المآسي القديمة إلى مجرد قصص تُروى، بلا أثر ملموس في الحاضر. هذه الغفلة قد تكون مريحة في ظاهرها، لكنها مكلفة في جوهرها، لأنها تفتح الباب أمام تكرار الأخطاء، وتجعل المجتمعات عرضة للاستغلال مجددًا.

في مقابل آفة النسيان، يمثل التذكُّر فعلًا من أفعال المقاومة.. التذكر هو جسر بين الماضي والحاضر، يربط بين ما عشناه وما نصبو إليه. وهو ليس مجرد استعادة للأحداث، بل إنه استحضار للدروس والعبر التي تعلمناها. التذكر يجعل الإنسان أكثر وعيًا بمسؤولياته، وأكثر استعدادًا لمواجهة التحديات التي تعترض طريقه.

ولعل هذا هو ما أراد محفوظ أن يلفت الانتباه إليه في روايته؛ فالحياة في “أولاد حارتنا” تتطلب وعيًا يقظًا بما جرى، حتى لا يبقى الناس أسرى الحكاية نفسها التي يعيد الزمن تكرارها بلا ملل. إن التحرر من النسيان هو أول خطوة نحو التغيير، لأن من يتذكر لا يقبل بالقيود، ولا يرضى بأن يكون ضحية للماضي مرة أخرى.

آفة النسيان ليست مجرد حالة عابرة، بل هي معضلة وجودية تطال الأفراد والمجتمعات على حد سواء.. حين ننسى، نفقد البوصلة التي توجهنا نحو الأفضل، ونفتح المجال لتكرار الأخطاء ذاتها التي حسبنا أننا تجاوزناها.

لذلك، فإن النسيان ليس نهاية مأساة، بل بدايتها؛ لأن الحاضر الذي يخلو من ذاكرة هو حاضر هش، لا يمكنه الصمود أمام رياح التغيير. أما التذكر، فهو السلاح الأقوى في وجه الظلم والخذلان!. هو فعل يتطلب شجاعة، لأنه يحمل في طياته ألم المواجهة، لكنه في الوقت نفسه يمهد الطريق نحو مستقبل أفضل.

وكأن نجيب محفوظ يهمس في آذاننا؛ من ينسى، يحكم على نفسه بالعيش في دائرة مغلقة من المعاناة. أما من يتذكر، فإنه يمتلك مفتاح التحرر من قبضة الماضي، ويفتح لنفسه ولغيره أبواب الأمل والنجاة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...