يوميات بائع كتب في إسطنبول (3)

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 5 أكتوبر, 2024

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 5 أكتوبر, 2024

يوميات بائع كتب في إسطنبول (3)

الصورة الرومانسية لبيع الكتب

ليس لي هوايات، عرفتُ باب المكتبة المدرسية عن طريق جلوسي على دكة ومقعد الاحتياطي في لعب الكرة في المدرسة، لم أستمتع بمشاهدة مباراة كرة قدم، ونادرًا ما أشتاق إلى سماع معزوفة موسيقية، وأطرب لبيت الشعر وللمقالة الجميلة والكتابة الحلوة، لا أعرف لعب الطاولة ولا الكوتشينة، ومبتدئ في لعبة الشطرنج، وقد تعلَّمتُ السباحة على كِبَر. ما عشت معه زمنًا هو الكتاب… هذه مقدمة عن هواياتي.

كنت كلما نشرتُ صورًا للمكتبة رأيتُ عبارات الانبهار وحسد القراء في التعليقات، لأني أعمل كما يزعمون بين هذه الكنوز الأدبية والفكرية. مع الوقت تولَّد لديَّ رد فعل على هذه الصورة الشائعة عن العمل في المكتبات، قررتُ أن أكتب عن حقيقة تجربة العمل في المكتبة، حتى أحطم الصورة الرومانسية للعمل في المكتبات، وبدأت بتأمُّل حالتي وأنا في قبوِ مخزنِ الكتب، وأنت ترى الكتب معبأة في كراتين السجائر، إذ تتميز تلك الكراتين بسُمْكِها للحفاظ أصلًا على السجائر، وهكذا تصلح لتعبئة الكتب. وفي هذا المكان يفقد الكتاب سحره ويتحوَّل إلى مُنتَج وسلعة.

ومهامُّ المكتبة تمتد كذلك إلى الجَرْد، وإعداد قوائم بجديد الكتب التي صدرت في دار نشر في بيروت لشرائها، ومتابعة إجراء وصول الشحنة عبر شركة شحن بحْرية، وتحويل الأموال إليها؛ وهكذا تستغرقك التفاصيل في المكتبة، إذ يبدأ البائع يومه بالتأكد من تعويض الكتب الناقصة، وتنسيق مخزن الكتب بكل ما فيه من عناوين. وهذه الصورة لا تتناسب مع الصورة المتخيَّلة لقارئٍ مسترخٍ مع مشروب القهوة بجانب الكتاب.

‏مَن يتحدث عن رومانسية مهنة بيع الكتب أتمنى أن يرى مشهدًا عرضيًّا لموظف المكتبة في المخزن يفتح كراتين الكتب، ثم يشقّ بالمشرط الحادّ رأس الكرتونة ويُخرِج البضاعة لا الكتب، ويصنّفها ويُخضِعها لحسابات تجارية بلا أي أساطير، ثم يمسح عن الكتب الغبار أو وعثاء السفر بالشحن البحري، ويسجّلها في دفاتر لتدخل على نظام المبيعات، بلا روقان، ثم يعرض الكتاب على صفحات التواصل الاجتماعي وتصل إليك فاتورته، وتتحدث مع الناشر عن توفر الصنف الفلاني ونقص بعض الكتب، فمصدر البيع قد لا يفرّق بين بوشكين الروسي والروائي هاروكي موراكامي الياباني… كلها بضاعة بالنسبة إليه.

وأخيرًا يصل الكتاب أنيقًا إلى يد القارئ، ويفك مشتري الكتاب السوليفان أو الورق الشفاف المغلف به الكتاب، وأنا أبتسم بخبث من تاريخ هذا الكتاب في البهدلة والأسفار، وها هو ذا الآن يستقر في مكتبة أحدهم ليتأنق به على تطبيق إنستغرام أو يضمه إلى تشكيلته الرائعة من الكتب.

حينما عملت بالمكتبة تذكرت عبارة هنري ميلر: «إنّ تجارة الكتب عمل عظيم؛ إذا لم يُفِدْك في شيء فإنه يعلِّمك شيئًا حول الطبيعة الإنسانية، يكاد يستحق الوقت المهدور لأجله، وتورم الأقدام، ونوبات الصداع».

بائع الكتب سيحظى بامتياز عظيم في هذه المهنة لو علم ما في باطن الكتب، فأغلب من يعمل في هذا المجال لا يقرأ الكتب، لكن الملاحظة الأهم في حديث أورويل، في أحد مقالاته عن عمله في بيع الكتب، أن كثرة الاحتكاك بعالم الكتب قد أفقده شغفه بها، وهذه ضريبة من ضرائب تلك المهنة؛ فقد شعر أورويل بالجفاء وهو يقول الأكاذيب ليروّجها أو يزيل الغبار عنها. لكنّ تجربتي كانت مختلفة عن الزميل جورج أورويل.

على الرغم مما انكشف لي من الروح التجارية لبيع الكتب،‏ فقد كنت أنعم بلحظات يمارس فيها الكتاب سحره علَيّ، وأشعر بوهج المعرفة عندما أشتري عنوانًا جديدًا وأعود به إلى البيت وأُعِدّ كوب الشاي، فلا تغرَّك صورتي مع القهوة على الفيسبوك، فالشاي هو وقود الروح، وساعتها أجلس مع النص بمفردنا وأقرأ وأتعلَّم، وأُمسِك بالقلم لأدوِّن الملاحظات، وعندها أعلم أن هذه الصناعة فيها هدية للروح، تفشل الظروف المادية في نزعها عنها.. بهاء النص الذي تقرؤه، وتلقي الأفكار والاستجابة العقلية لها.

يؤدي العمل في المكتبة إلى جهد بدنيّ وذهنيّ، فهناك مهامّ الجرْد وتعويض الكتب الناقصة. وعلى ذكر الجرد، كنت مرة في المكتبة نجرد الكتب وأسمع نداءات زميلي، ومع احتساب عدد النسخ حتى نسجلها في النظام الإلكتروني، يقول زميلي: “عندك 2 نيتشه، و3 ماركس، و4 مقدمة في النقد الأدبي”، ساعتها تخيَّلتُ الكتب دواءً نَعُدّ أصنافه، وهو كبسولات قابلة للابتلاع، كبسولة للتحليل النفسي عِلْمًا وعلاجًا، وقد أتناول دواء عبارة عن مضاد حيوي.

الوقوف على الرفوف

العمل في المكتبة هو تأمُّلٌ في الرفوف.. ذات مرة جاء في حساب “وراق” لبيع الكتب منشور بعنوان “كتب ترفض مغادرة الرفوف، ونفرح بخروجها دون رجعة”، ووضَع صورة كتاب “الوضع البشري” لحنا آرندت، وساعتَها تذكرتُ هذه العناوين ثقيلة الظل التي تظل قرابة العام دون بيع، وفي يوم ما يأتي زبون في العادة غريب الأطوار للبحث عنها وشرائها، وهذه النوعية من الكتب في الغالب هي الكتب المتخصصة في العلوم الإنسانية، مثل القضايا الفلسفية الجزئية، وبعض كتب دار الكتاب الجديد مرتفعة الثمن في قضايا النقد الأدبي، على عكس دار التنوير التي تجيد اختيار العناوين الخفيفة مؤخرًا مثل كتاب “قلق السعي إلى المكانة” وكتاب “فن اللامبالاة”.

وكنتُ كلَّما وقفتُ عند رفّ الروايات، وتأمّلتُ غلاف رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو، تذكّرتُ ما حكاه فخري البارودي في مذكراته الجميلة، إذ كان للخواجة ديمتري مقهى في دمشق، واستقدم “أبو فاضل” ليكون “قبضاي” يتقي به شرّ الرعاع، وحدث ذات مرة أن علّق أحدهم في صدر المقهى صورة الروائي الفرنسي فيكتور هوغو، فلما رأى ديمتري الصورة سأل أبا فاضل عنها، وكان أبو فاضل يجهل الاسم فتظاهر بالمعرفة وقال عن هوغو: هذا شيخ “قهوجية” باريس!

والولع بالسبق الصحفي قديم، فقد نشرت صحيفة أمريكية خبر وفاة الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو، ومع أن الصحيفة علمت بعد ذلك أن الشاعر كان حيًّا يُرزق، فإنها لم تعتذر عن الخطأ، وبعد عشر سنوات- أي عام 1885- مات هوغو فعلًا، وكتبت الصحيفة بالبنط العريض: «لقد كنا أول من سبق بإعلان وفاة الشاعر فيكتور هوغو».

في المكتبة يأتي الزبون وهو في حالة الحيرة الأدبية، فهو يطلب ترشيح رواية ممتعة، وأحيانًا يطلب القارئ -إن كان تركيًّا يتعلَّم العربية في الكلية- أن تكون رواية سهلة دون تعقيدات.. هذا قارئ يحبّ الاستجمام، والقراءة بالنسبة إليه مستراح من الحياة الواقعية. أهمُّ مَن ينقذك حين تجيب هذا القارئ هُم الروائيون الذين يعرفون كيف يحكون حكاية لها بداية ونهاية وسرد ممتع، وهذا قولٌ انطباعيٌّ مني. ساعتَها أقف بهذا القارئ عند صف كتب ستيفان تسفايج وأحكي له عن رواياته، وأتوقف عند سيرته الجميلة “عالم الأمس” أشرح له بعض ما جاء فيها، فهي من السير الذاتية المحببة لي.

وأحيانًا يطلب مني القارئ رواية عربية غير مترجمة.. لا بأس عندئذٍ أن أحكي له عن الروائيين المصريين الذين قرأت لهم، فأتناول رواية “الطنطورية” لرضوى عاشور، أو روايتها الجميلة “فرَج”، ودائمًا لا أجد رواية “ثلاثية غرناطة” التي تنفد من الرفوف سريعًا.

هذا القارئ المقبل على الروايات ويريد قصة حلوة، وهو مستعدّ لسماع ترشيحك لرواية يقرؤها، أَبْعِدْهُ عن الأكثر مبيعًا، فكل ما هو أكثر مبيعًا لا يعني أنه قيِّم بالضرورة، وإذا أعطيته عملًا رديئًا سيعود إليك وتجد في عينيه لومًا. لكنني لا أفوِّت على نفسي وعليه فرصة أن أرشِّح له رواية من روايات نجيب محفوظ، ليتعرف إلى عالم محفوظ البديع بحرافيشه وأبطاله.

أحيانًا أستعمل ترشيحات من أثق بذائقتهم، وأشرح للقارئ أنني لم أقرأ هذه الروايات لكن سمعت أنها ممتازة، وأتوجَّه إلى رف الروائي ربيع جابر الذي يحبُّه صديقي أحمد أبا زيد، أو إلى رواية “فتاة من القرن الذهبي” لقربان سعيد التي رأيت صديقي يمدحها وهو متحمس، أو نقف على رف غادة السمان وأنصحه أن يمرَّ بعينيه على كُتبها ويلتقط ما يعجبه منها، والذي غالبًا سيكون رسائل غسان كنفاني لها، فنحن البشر مولعون بالتلصص وكشف المستور وقصص الحب الخفية.

وهناك من يصعِّب عليك السؤال ويقول: «أريد رواية رعب عربية وليست مترجمة، ولكاتب مصري، وحبذا لو كانت بالعامية».. سمع صديقي هذا الوصف، وقال: «مِن أين نأتي بهذا الطلب الغريب؟!». وبحثت، ووجدت على الرفوف بعض النماذج الروائية التي تلبي طلب هذا القارئ. أو قد يريد رواية مترجمة لكن قصيرة! ساعتها تنقذني رواية “راوية الأفلام” من كتابة إيرنان ريبيرا لتيلير وترجمة صالح علماني، فهي قصيرة ولذيذة وتُقرأ في جلسة واحدة. وقد لاحظت ولع القراء السوريين بالروايات المترجمة.

والكتب كذلك قد تكون محاولة للتفكير في هواجس حياتية، وقد حكى لي صديقي أنه رأى ناشطًا سياسيًّا معتزلًا الحياة السياسية، يحمل كتاب “التضحية غير المجدية” في إحدى المكتبات، وكانت أحلى استعارة يمكن أن تسمعها، التضحية غير المجدية مع ناشط سياسي سابق.

خلاصة الأيام

وإذا وقفت أمام صف الروايات فتجدر الإشارة إلى سومرست موم، وإن كنت أحب سيرة موم بعنوان “عصارة الأيام” لكنها لا تتوفر في المكتبات، فقد طُبعت في إحدى وزارات الثقافة في العالم العربي مما يجعلها لا تتوفر تجاريًّا، لكنها سيرة ممتعة.

شغل سومرست موم أذهان القراء حول العالم، كان له معجبون في اليابان وأمريكا، وهو من أشهر أمثلة نجاح المؤلفين ماديًّا. وقد استفاد من تحويل رواياته إلى أفلام، ووصلت مبيعات كتبه إلى 40 مليون نسخة حول العالم، وأصبح لديه قصر في الريفيرا من عوائد الكتب!

يحكي عنه أحمد خالد توفيق ويقول: «يتعامل دارسو الأدب بتحفظ مع سومرست موم باعتباره يرتكب أخطاء كثيرة في السرد، وباعتباره مسليًا أكثر مما يليق بكاتب محترم! بالنسبة إليّ كان العثور على عمل لم أقرأه لسومرست موم عيدًا ثقافيًّا صغيرًا، حتى إنني أحفظ معظم كتابه عن فن الرواية، وملاحظاته عن الحياة. “القمر وستة بنسات” هي قصة عن جنون الفن الذي يستبدّ بمحاسب يحيا حياة آمنة بلا إثارة، فيصرّ على التخلّي عن كل شيء كي يرسم، ويترك زوجته ويذهب إلى تاهيتي ليعيش هناك، يرسم الطبيعة ويعاشر حسناوات الجزر، حتى نهايته الفظيعة بداء الجذام.. القصة تتحدث عن حياة جوجان طبعًا، وهي مليئة بحبكات فرعية باهرة مثل الرسام طيب القلب الذي يستولي جوجان على زوجته، زوجته الباردة التي يبدو أنها تكره جوجان وتحتقره، لكنها في الواقع تقع تحت سيطرته تمامًا. هذا عمل فائق الإمتاع وشبه ملحميّ، فلا شك أنه ترك أثرًا يصعب محوه في عقلي وكتاباتي».

وكتب حسين أحمد أمين إلى أخيه جلال أمين عام 1950، في رسالة له في أثناء وجوده في لندن: «أنصحك يا جلال جدّيًّا أن تكفّ عن قراءة طه حسين وتوفيق الحكيم وتبدأ في قراءة سومرست موم.. اشترِ فوراOf human bondage ، وتعني “العبودية الإنسانية”، ولا تنتظر حتى أحضره معي، وابدأ في قراءته حالًا، فلن تجد في الدنيا كتابًا مثله». وقرأت في صفحة أ. نعيم الفارسي عبارة جميلة: «إنّ اكتساب عادة القراءة يعني أن تقيم لنفسك ملاذًا بعيدًا عن مآسي الحياة»، وهي تُنسب إلى سومرست موم.

ناج من المقصلة: أدب السجون

إذا لمست في قارئي في المكتبة حب أدب السجون، أقوده إلى درب الآلام ليسمع أهات المسجونين، ويتعرف رواية “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون التي حكى لي صديقي أنه شعر بالألم في فقرات ظهره بعد اطلاعه عليها، فقد تسبب الألم النفسي في تعب جسدي. أو يعرف سيرة “السجينة” لمليكة أوفقير، أو “القوقعة”، تلك الرواية التي يحبها جمهور القراء السوريين لأنها تحكي عن عالم السجون، وللأدب السوري نصيب كبير من أدب السجون، فلدينا مذكرات فرج بيرقدار عن تدمر في “خيانات اللغة والصمت”، وقصص ياسين الحاج صالح عن القراءة في السجن في كتابه “بالخلاص يا شباب”، وفي هذه المذكرات نرى أن الكتب ساعدت ياسين على مغالبة السجن.

وقصص السجن تذكرني بما حكاه محمود الورداني في مذكراته “الإمساك بالقمر” عن تنصت المخبرين في مقهى على مثقفين، وأصاب أحد المخبرين الضجر والملل من تنصته على ما يقال دون أن يفهم شيئًا ليكتبه في التقرير المطلوب منه، واضطُر إلى أن يميل على الروائي إبراهيم عبد المجيد، ربما لأنه أطول الجالسين أو أعلاهم صوتًا، وسأله مباشرة: «سيادتك في تنظيم سري؟».

ومن المذكرات المهمة عن السجن “ناجٍ من المقصلة”، وقد استفتح الكاتب محمد برو مذكراته بقوله: «ستعيا يا صديقي وأنت تتبعني… سأكثف عشرين عاماً من العذاب والألم في هذه الصفحات»، هكذا ينبهنا المؤلف في بداية كتابه المؤلم، ويصف لنا اللحظات الأولى في سجن تدمر، ففي صيف عام 1980 دخل السجن، رأى بوابة حديدية ضيقة جدّاً، كُتب عليها بالخط الأسود الرديء «الداخل مفقود، والخارج مولود».

قضى برو في سجون الأسد 13 عامًا بين تدمر ثم سجن صيدنايا، اعتُقل عام 1980 وعنده 17 سنة، وأنت لا تسير بين صفحات كتاب عادي أو رواية من خيال المؤلف، بل تستمع وتنصت لحكايات من الجحيم يرويها أحد الناجين، وتقرأ عن أحداث مرهقة، وتتابع أشكالاً مختلفة من المآسي والحرمان وصنوف التعذيب الجسدي والنفسي، ومن البداية تعاهد قلبك على أن يتجلد، فهو الآن سيرى صفوف الجلادين النهمين كذئاب جائعة وحوشًا تتلقف السجناء المقيدين بالسياط، وهم يسومونهم سوء العذاب وضربات من تلك التي تفتك باللحم الهزيل للسجناء، بعد أن فعل التجويع والجفاف والمرض فيها ما فعل، وسترى نموذجًا عمليًّا لحيونة الإنسان، بل إن الحيوانات فيها رحمة أكثر مما تفعله هذه الكائنات معدومة الإنسانية في نظام الأسد.

تنتظر أن تفهم الجرم الذي ارتكبه محمد برو ليصل إلى هذا المعتقل الصحراوي ذي السمعة السيئة، هل قتل مثلا أو ارتكب جريمة خطيرة؟ ومع توالي الصفحات تكتشف عبثية الاتهام، وهو حيازة صحيفة! والحكم على من تداول هذه الصحيفة من الطلبة الصغار بالإعدام، نُفّذ الإعدام في سبعة من الطلاب واعتُبر محمد برو أقل من السن القانونية المسموح فيها بالإعدام، فنجا من الإعدام، لكن انتظره موت آخر بطيء في سجن تدمر الفظيع.

ولقد سمعت كثيرًا من قصص السجن بالرواية الشفوية عن محمد برو، وأغربها عندما خرجنا للتنزه في غابة بلغراد على أطراف إسطنبول، ونحن نشوي اللحم اللذيذ ونأكل من المقبلات الشهية التي أحضرها برو، فهو من حلب ويجيد الشواء، وفي وسط هذا الجو العليل سمعنا قصصًا عجيبة من الجحيم.

من القصص التي توقفت أمامها في حكاية محمد برو يقول: «كنتُ أنظر وجوهَ العناصر المرافقين المشرفين على تعذيبنا طوال الليل في الطريق من حلب إلى تدمر، ولست أنسى صاحب ذلك الوجه الحزين الذي كان ينظر إلينا بأسىً عميق ونحن نُساق إلى هذا المصير الرهيب.. كان عنصراً من عناصر الوحدات الخاصة، إلا أن حزن روحه كان طافياً، لدرجة أني أتذكر أني كنت خائفاً عليه من أن يفتضح حزنه.. عرفت بعد سنوات أن اسمه أحمد، وأنه اعتُقل وأُعدِمَ في السجن».

وقد سمعت الأستاذ محمد برو يحكي وهو يبتسم عن سجين معهم في تدمر، كان يصر على استخدام التشبيه بالقول «تحول 360 درجة!»، وبالطبع لا يوجد تحول عند هذا الرقم، بل هو البقاء في الموضع ذاته، وهذا السجين نفسه كان يحب أن ينضم إليهم في الجلسات الشعرية لـ”تلقيح” القصيدة وهو يقصد “تنقيح”، وهذا يذكرني بما قاله إلياس مرقص في حوار معه عن الرفيق دانيال نعمة الذي شاهده مرة واحدة في اللاذقية وتعلم منه عبارة «كبح جماع الاستعمار».. ولا يستطيع مرقص أن يذكر الرجل دون أن يذكر عبارة “كبح جماع الاستعمار”، فقد جعل الوقوف أمام الاستعمار علاقة جسدية يجب كبحها.

وعلى العموم لم أعد أتحمل القراءة في أدب السجون ومعرفة الفظائع، يكفي الألم الذي في القلب، خصوصًا مع شعوري بالعجز عن التخفيف عن أي سجين، والله يفرج عن كل مظلوم.

1 تعليق

  1. نجلاء

    استمتعت جدا بقراءة المقال.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...