الإبادة التعليمية في غزة

بواسطة | يونيو 23, 2024

بواسطة | يونيو 23, 2024

الإبادة التعليمية في غزة

أنا ابن ناجٍ من مجازر النكبة، ابن لشخص آمن بأن التعليم هو السبيل الوحيد لمنع تدمير مستقبل شعبنا، ابن لرجل خسر أبناء جيله كل ما يملكون، فآمن وبشدة بأن الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يسلبك إياه هو التعليم، وما سوى ذلك يمكن أن تخسره؛ يمكن أن تخسر مالك وبيتك وأرضك، وحتى مكانتك الاجتماعية.. وهذه هي القناعة التي حفظت شعبنا وجميع الأجيال التي تلت جيل النكبة.

وربما التعليم هو الشيء الوحيد الذي سيبقى للأجيال المتعلمة في غزة بعد هذه الكارثة؛ ويبدو أن العدوّ يعرف تماماً – ومنذ اليوم الأول- أنه إن أراد أن يمحو هذا الشعب، فعليه أن يمحو مدارسه وجامعاته.. باختصار، أن يقوم بـ “إبادة تعليمية”!

 بهذه الكلمات أطلّ طبيب الحروب، ورئيس جامعة غلاسكو البريطانية، والناجي من قصف المستشفى المعمداني في غزة، الدكتور غسان أبو ستة، كضيف شرف في مراسم تخريج طلاب الجامعة العربية في بيروت. ومن خلال كلماته، وفي ضوء مصطلح “الإبادة التعليمية”، سنفصّل كيف تحاول إسرائيل القضاء على مسيرة التعليم في غزة.

 بالأرقام:

تصادف كتابة هذه المقالة، السبت 22 حزيران/ يونيو، يوم بدء امتحانات الثانوية العامة (التوجيهي) في الضفة والقدس، لكن قاعات الامتحان في قطاع غزة لن تفتح أبوابها أمام 39 ألف طالب وطالبة، حرمهم الاحتلال بصواريخه وقذائفه، وإبادته المستمرة، من تقديم الامتحان.. هذا ربما أصعب وأثقل يوم يمر على هؤلاء الطلبة خلال الحرب، وقد تمنوا كثيراً ألا يأتي هكذا، وألا تتأجل أحلامهم.

اليوم، لن تمتلئ شوارع غزة بالطلبة المتسابقين نحو الامتحان، ولن يعيش قطاع غزة توتر طلبته وعائلاتهم، ولن نسمع شكواهم من الأسئلة الصعبة.. اليوم، كثيرٌ من الطلبة الذين كانوا سيتصدرون لائحة أوائل فلسطين، كما عهدنا قطاع غزة كل عام، يقفون في الطوابير لساعات للحصول على شربة ماء نظيفة، أو صحن طعام صغير يتقاسمونه وأسرهم، بعضهم ارتقى، وبعضهم لعله مستلقٍ على بلاط أحد المشافي نتيجة الغارات التي لا تتوقف، فقد أصيب الآلاف منهم منذ بداية الحرب، وبعضهم ممن حالفهم الحظ بالنجاة اتخذوا من مدارسهم مراكز للإيواء.

في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، علقت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية التعليم في جميع المؤسسات التعليمية بقطاع غزة، ولم يتم استئنافه حتى الآن؛ نتيجة لاستمرار حرب الإبادة الجماعية في القطاع. والأخطر من ذلك أن توقف العملية التعليمية في غزة قد يستمر سنوات، وهو ما يهدد بمحو الوعي لدى جيل فلسطيني كامل، وقد يزرع في النفوس عزوفاً طوعياً عن التعليم تحت ضغط الفقر والبطالة والحرمان.

في مطلع شهر نيسان/ أبريل، حذرت الأمم المتحدة من “إبادة تعليمية متعمدة” في قطاع غزة، عقب تدمير أكثر من 80% من المدارس. ووفقا للأمم المتحدة، يشير مصطلح “الإبادة التعليمية” إلى المحو الممنهج للتعليم، من خلال اعتقال أو احتجاز أو قتل المعلمين والطلاب والموظفين، وتدمير البنية التحتية التعليمية.

وفي بيان مشترك، قال 19 خبيراً ومقرراً أممياً مستقلاً إن الهجمات القاسية والمستمرة على البنية التحتية التعليمية في غزة، لها تأثير مدمر طويل الأمد على حقوق السكان الأساسية في التعلم والتعبير عن أنفسهم بحرية، ما يحرم جيلاً آخر من الفلسطينيين من مستقبلهم؛ وذكر البيان أنه بعد 6 أشهر من الحرب “قُتل أكثر من 5479 طالباً و261 معلماً و95 أستاذاً جامعياً، ومن بين القتلى 17 شخصية يحملون درجة البروفيسور، و59 من حملة الدكتوراه، و18 من حملة الماجستير”، مشيراً إلى أن هذه الأعداد غير نهائية، وأن غالبيتهم يمثلون مرتكزات العمل الأكاديمي في جامعات غزة. كما أصيب أكثر من 7819 طالباً و756 معلماً، وهذه الأعداد في تزايد يومي. وبالإضافة إلى ذلك، اضطر حوالي 88 ألف طالب إلى تعليق دراستهم، ولم يتمكن 555 طالباً من حاملي المنح الدولية من السفر إلى الخارج بسبب القيود والانتهاكات، وتعرض طلاب غزة الدارسين في الخارج لانقطاع في تعليمهم بسبب توقف منحهم الدراسية، أو عدم قدرة ذويهم على إرسال المال لهم.

وأشار البيان المشترك أيضاً إلى تدمير أو تضرر 195 موقعاً تراثياً، بما في ذلك الأرشيف المركزي لغزة، الذي يحتوي على 150 عاماً من التاريخ الموثق، إضافة إلى 227 مسجداً و3 كنائس، كما تضررت أو دُمرت 13 مكتبة عامة، وهدم جيش الاحتلال جامعة الإسراء في 17 يناير/ كانون الثاني 2023، وهي آخر جامعة متبقية في غزة، وفقاً للبيان. وعن تدمير مواقع التراث الثقافي في غزة، قال الخبراء في البيان إن أسس المجتمع الفلسطيني تتحول إلى أنقاض، وإن تاريخه يمحى.

ووفقاً للمرصد الأورومتوسطي، قام الاحتلال – كجزء من انتهاكاته- بتحويل بعض الجامعات أو الكليات أو المدارس إلى ثكنات أو مراكز اعتقال قبل أن يقوم بهدمها. ومن ناحية أخرى، قدّر صندوق النقد الدولي خسائر قطاع التعليم في غزة جراء الهدم والتدمير وتضرر 70% من المدارس والجامعات بأكثر من 720 مليون دولار حتى شهر فبراير/ شباط من العام الماضي. في حين قدر المرصد الأورومتوسطي أن الخسائر المادية التي لحقت بالجامعات فقط جراء التدمير تتجاوز 200 مليون دولار.

في خضم الدم والمذابح، والمجازر والإبادة الجماعية، والمجاعة والعطش والتهجير، وفي زحمة كل ما يحدث، لا يتكلم أحد عن التعليم! ولكن، بعد تسعة أشهر، آن الأوان أن نفتح هذا الملف دون تراجع.. آن الأوان أن نسلط الضوء على أجندة العدو الصهيوني فيما يخص مسيرة التعليم في غزة، ونسأل: بأي حق دمرت إسرائيل التعليم في غزة؟ المدارس، الجامعات، المعاهد، المساجد، وحتى رياض الأطفال والحضانات؟ مراكز البحوث والدراسات والمختبرات والمكاتب؟ بأي حق قتلت المدرسين ودكاترة الجامعات، واستهدفت أئمة المساجد؟ بأي حق اغتالت أدمغة غزة؟ بأي حق تحاول أن تمحو تاريخها؟ بأي حق تنتقم من التعليم في غزة لمجرد أنه يخرّج أذكى طلاب العالم؟

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...