التكافؤ الزائف: الأثر السلبي لمساواة الأضداد في السودان

بقلم: إدريس آيات

| 24 يونيو, 2024

بقلم: إدريس آيات

| 24 يونيو, 2024

التكافؤ الزائف: الأثر السلبي لمساواة الأضداد في السودان

لطالما استشهد كارل غوستاف يونغ (1875-1961)، السويسري الرائد في علم النفس التحليلي وفلسفته السياسية، بفكرة محورية تنبثق عن الدراسات العميقة للصراعات، وقد خلص إلى نتيجة تقول: “عندما تكون الأضداد متساوية، فإنها تخلق حالة من الجمود، حيث لا شيء يمكن أن ينتصر دون التسبب في الدمار.”

تجد هذه الفكرة صداها بشكل جلي في المساعي الدولية لتحقيق السلام في السودان، حيث تعددت الوساطات والمبادرات؛ من محادثات برعاية الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، إلى جهود الوساطة التي قادها الاتحاد الأفريقي، والوساطة التي قادتها مصر باسم دول جوار السودان، وصولًا إلى محادثات جدة بدعم سعودي-أمريكي، دون أنْ نغفل المؤتمر الذي عُقد في باريس بغية تنسيق الجهود الأوروبية للوساطة والاستجابة الإنسانية. وعلى الرغم من هذا التعدد، فإن النهج الذي تبنته هذه المبادرات اتسم بمساواة مفتعلة بين طرفي النزاع.

في هذا السياق، يُلاحظ أن الجيش السوداني، المؤسسة العسكرية القديمة التي نشأت في عهد الاستعمار البريطاني-المصري عام 1925 – أي منذ قرابة مئة عام-، والتي تعد الذراع الدفاعية السيادية للبلاد، يُقارن بميليشيا الدعم السريع، وهي ميليشيا نشأت في العام 2013 تحت قيادة محمد حمدان دقلو، والتي كانت تعرف سابقًا بقوات الجنجويد، ذات الصيت السيئ في الإبادة الجماعية بدارفور السودانية عام 2003.

إن التماثل الظاهري الذي يَطرحه اللاعبون الإقليميون والدوليون بين هذين الطرفين في النقاشات الدولية ينطوي على خطأ فادح، فمن غير المعقول أن تُساوى المؤسسة العسكرية الراسخة، صاحبة التاريخ الطويل في حماية البلاد، مع ميليشيا نشأت في الأمس القريب. هذا التساوي لا يُعدّ إلا محاولة لتجميد الوضع، ما يفضي إلى استمرار الفوضى، وعدم تحقيق أي تقدم حقيقي نحو الحل العادل.

فمنذ اندلاع الحرب، انغمست قوات الدعم السريع في ممارسة سياسة الأرض المحروقة، مسحًا لقرى ومدنٍ، ونهبًا لممتلكات المواطنين، وإفسادًا للأراضي والبنية التحتية بطريقة ممنهجة، ومحاولةً لإحكام السيطرة على أقاليم دارفور وكردفان غربي السودان. وهنا يتضح أن جذور هذه المعضلة تتأصّل في موقف المجتمع الدولي والإقليمي، الذي ارتكب خطأ جسيمًا – أو ربما تعمّد- في المساواة بين الطرفين، معتبرًا الضدين “نِدّين” في ميزان الصراع، وهي فكرة زُرعت أيضًا من قبل قوى داخلية في السودان.

فقوات الدعم السريع، بمعية حلفائها السياسيين، استغلت الحرب لترويج ادعائها بأنها تمثل الحواضن الاجتماعية في غرب السودان، وتسعى لاستعادة الحكم المدني الديمقراطي، الذي تزعم أن “فلول نظام البشير” و”الإسلاميين” يحاولون خطفه تحت راية عبد الفتاح البرهان؛ وهذه الادعاءات قد لقيت صدى لدى البعض بسذاجة – أو بدافع من مصالح سياسية- كما يفعل تحالف “تقدم”، الذي يتماهى مع قوات الدعم السريع، ويعتنق خطابها المبرر للفظاعات.

يزداد المشهد تعقيدًا عندما نأخذ بعين الاعتبار المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للقوى الإقليمية والدولية، التي تسعى للاستفادة من الموارد الطبيعية الغنية في دارفور، والتي لم تُستغل بعد بشكل كامل. هذه القوى تُروج لـ”مبادرات وقف إطلاق النار” التي تسعى لاستخلاص مكاسب من الحرب، بدلاً من الضغط على الميليشيا لإنهاء المجازر ضد المدنيين، على أمل أن تُصبح هي القوى المهيمنة في السودان بعد انتهاء النزاع.

كان من المفترض أن يُنظر إلى قوات الدعم السريع منذ البداية على حقيقتها، أنها ميليشيا غير نظامية تقاتل جيشًا وطنيًّا يُمثل مؤسسة عريقة – رغم أخطائها- في دولة ذات سيادة؛ لأنّ تبني ادعاءاتها المُضللة حول الدفاع عن الديمقراطية، لا يعدو كونه تأييدًا لمأساة قد تُحيي فصولًا جديدة من الإبادة الجماعية، في ديار دارفور العريقة.

وكل مساعي الميليشيا تثبت أنها تسعى فقط للحفاظ على امتيازاتها من المناصب التي تبوأتها قبل فتيل الحرب، ومكاسبها المتمثلة في مناجم الذهب والأصول، متبنيةً سياسات ملتوية. ويبرز ذلك في استعدادها الجلي لتوظيف المدنيين كدروع بشرية عند الحاجة، واستهداف أماكنهم الآمنة، وإحراق القرى والمدن بلا رحمة، فقط لتحقيق مآربها الذاتية، والمستهدف هو الشعب نفسه الذي تزعم أنها تود حكمه بالديمقراطية إذا ما انتصرت في الحرب التي أشعلتها.

ومن المآلات المأساوية في المساواة بين الضدين تبييض صورة حميدتي، ذلك القائد الذي بدأ مسيرته كقاطع طريق ومرتزق، وكان يوماً ما أداةً في يد نظام عمر البشير للقمع والترويع، ثم جاء التماهي المحلي والإقليمي ليُعيد صياغة صورته، من مجرم حرب إلى مناضل يحمل راية الديمقراطية ويدافع عن المهمشين في السودان، في محاولة لطمس آثار جرائم محمد حمدان دقلو وقواته. هذه الصورة المُعاد تصنيعها تمنح حميدتي صك البراءة لمواصلة فظائعه، لكن هذه المرة على نطاق أوسع يشمل السودان بأسره.

وقد تُفسّر الهجمات المكثفة الأخيرة على مدن الجنينة، وولاية الجزيرة، ثم الفاشر، التي بقيت حتى الآن خارج قبضة الميليشيا، كمحاولة لإعداد الأرضية لإعلان حكومة مستقلة في غرب السودان؛ وقد برزت بوادر هذا التوجه مع تعيين الميليشيا إدارة مدنية في إقليم الجزيرة بقيادة صديق أحمد، عضو حزب الأمة وأحد الفاعلين البارزين في تحالف “تقدم”. هذه الخطوات قد تفضي إلى مخرجات طويلة الأمد، مهددةً بانفصال جديد يُعيد إلى الأذهان انفصال جنوب السودان.

وعند مراقبة موقف الولايات المتحدة الأمريكية، بثقلها الدولي ونفوذها العميق في منطقتي السودان والشرق الأوسط، في فرض عقوباتها التي شملت تجميد الأصول وحظر السفر، ليس فقط على الأفراد بل أيضا على الكيانات الاقتصادية مثل البنك الخليجي وشركة الفاخر للأعمال المتقدمة، التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، وشركة زدنا الدولية المرتبطة بالقوات المسلحة السودانية.. عندما مراقبة موقفها هنا نجدها دائما تساوي بين الطرفين. لكن لماذا يجب الحد من تمويل القوات المسلحة السودانية؟ ففي نهاية المطاف هي الحامية الموكل لها أمن واستقرار السودان!

هنا ندرك المفارقة في تعامل الولايات المتحدة مع الطرفين كطرفين متساويين في الصراع، ومعاملة الضدين بالتساوي، ويظهر ذلك في استمرار فرض العقوبات على القوات المسلحة السودانية بموازاة تلك المفروضة على ميليشيا الدعم السريع. هذا التكافؤ في العقوبات يبدو كما لو أنه يعكس رغبة أمريكية في استمرار الحرب بلا حسم، ما يعكس استراتيجية الغرب المعهودة في إدارة النزاعات في العالمين الأفريقي والإسلامي، بشكل يضمن عدم خروج أي طرف كفائز قاطع، الأمر الذي يحفظ الجيش السوداني ضعيفاً، وفي الوقت نفسه لا يجعل قوات الدعم السريع خاسرة كليّاً، ليظل كل منهما يهدد الآخر، ويمكن استغلالهما في توازنات القوى الدولية حسب الحاجة.

من المفهوم أن القوى الغربية تتبنى مواقف تخدم مصالحها الإمبريالية، مفضلة ذلك على حقوق وحياة الإنسان في القارة الأفريقية والعالم العربي، غير أن الغريب في الأمر هو تجاهل القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة، مثل تنسيقية القوى الديمقراطية (تقدم) في السودان، لهذه الحقيقة البائنة!

فإن كان هذا الإغفال ناتجاً عن سوء نية أو عمى بصيرة ناجم عن التزاماتها السياسية، فإن ذلك يعد خطأً استراتيجياً فادحاً؛ وإن كانت الرغبة في دحض بقايا النظام البشيري، أو السعي نحو وعود ديمقراطية مزعومة من ميليشيا، هي ما يدفع هذه القوى للتحالف مع الدعم السريع، فإنهم بذلك يرتكبون سذاجة سياسية وتاريخية لا تغتفر. تاريخياً، نجد أن الحكم العادل والديمقراطية لا يمكن أن تنبثق من رحم الميليشيات التي تتسلق إلى السلطة عبر فوهات البنادق.

تذكرنا هذه الحقيقة بالإمبراطور الروماني نيرون والحرس البريتوري، الذي استخدم العنف والقمع لتعزيز حكمه، مدمراً كل من يعارضه أو يتحداه، حتى أنه لم يتوانَ عن قتل أقرب الناس إليه.. الإمبراطور الروماني نيرون (37- 68)م أصبح إمبراطور روما عام 54 م، بعد وفاة الإمبراطور كلوديوس، بعدما دبرت والدته أغريبينا موت كلوديوس لضمان وصول ابنها للعرش، فاستغل نيرون القوة العسكرية للحرس البريتوري لفرض سلطته وقمع أي معارضة بشكل شنيع.

نيرون الذي استلم الحكم في سن مبكرة، سرعان ما تحول من حاكم شاب يعتمد على الإرشاد تحت إشراف مرشدين مثل الفيلسوف سينيكا والقائد العسكري بوروس، اللذين حاولا توجيهه نحو الحكم العادل والمعتدل، إلى طاغية مستبد، قام بقتل والدته أغريبينا ومربيه سينيكا، ولم يتوانَ عن استخدام العنف الشديد ضد المسيحيين، متهمًا إياهم ظلمًا بإشعال حريق روما العظيم.

وفي العصر الراهن، في ألمانيا، استخدم الحزب الوطني الاشتراكي الألماني، المعروف بالحزب النازي، بقيادة أدولف هتلر، أساليب العنف والترويع للصعود إلى السلطة، مستفيدًا من القوات شبه العسكرية مثل الـ SA (قوات العاصفة) والـ SS (القوات الحراسية)، لتثبيت حكمه ومن ثم الوصول إلى السلطة.

وبعد وصول الحزب إلى السلطة عام 1933 لعبت هذه القوات دورًا حاسمًا في القمع السياسي والعرقي، فبينما بقيت قوات العاصفة قوة شبه عسكرية تُستخدم لتخويف الخصوم السياسيين وإرهاب الجماهير، تطورت القوات الحراسية، من مجرد وحدة حماية للنازيين إلى قوة قمع رئيسية تدير الجستابو (الشرطة السرية) ومعسكرات الاعتقال، وتم استخدامها لتنفيذ أجندة الحزب النازي بكل قسوة، من ترويع الأحزاب المعارضة إلى تنفيذ حملات كـ “ليلة الكريستال”، التي شهدت ملاحقة اليهود وتدمير ممتلكاتهم.

وإن ميليشيا الدعم السريع، إذا ما انتصرت في السودان، لن تحيد عن هذين النموذجين المروعين، ولن تكون الديمقراطية في أجندتها إلا كستار يخفي وحشية الأفعال، لأن الدروس من هذه الأمثلة التاريخية واضحة: لا يمكن أن تنبثق ديمقراطية حقيقية أو حكم عادل من رحم ميليشيات تعتمد العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة.

وفي هذا السياق، تقع على عاتق تنسيقية القوى الديمقراطية مسؤولية هائلة لإعادة تقييم تحالفاتها، والبحث عن سبل لتعزيز الحكم الرشيد بدلاً من تكرار أخطاء الماضي. الحل الأمثل والأكثر رشداً لتنسيقية القوى الديمقراطية هو السعي لتفاهم مع الجيش، ذلك الكيان الذي يجب أن يظل قوياً، لضمان أمن السودان قومياً ضد التهديدات الخارجية وتقلبات الأقدار السياسية؛ فالضعف الذي يُخطط لإيصال الجيش إليه ليس إلا مقدمة لفوضى ستدمر كيان الدولة.

في الختام، تظل دارفور محورًا حيويًا في الصراع السوداني، حيث تتنافس الأطراف المتحاربة على السيطرة عليها بسبب أهميتها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية؛ ومن المأساوي أن يخذل العالم دارفور من جديد، ومرةً أخرى، تاركاً إياها تحت رحمة آل دقلو، الميليشيا نفسها التي بدأت المجازر قبل عقدين في الإقليم، وهي اليوم تُقيم مجازر أخرى فيه، ما اضطر حتى المواطنين العاديين من رجال ونساء وحتى أطفال للاستنفار لحماية مُدنهم بجانب الجيش؛ من ميليشيا تحمل قائمة من الجرائم ضد الإنسانية، تحت مبررات سياسية واهية.

ومع استمرار نقاش هذا الموضوع البدهي، الذي كان يجب أن يكون الاصطفاف فيه واضحًا، يزداد الوضع الإنساني تدهورًا، دون أية نجدة دولية لتخفيف معاناة السكان الدارفوريين، ليُتركوا للموت كما تُركوا قبل أكثر من 20 عامًا.

3 التعليقات

  1. FAISAL HAROUN

    كفو &&&
    أحسنت استاذ آيات ليتهم يفهمون لكنهم لا يريدون ذلك.

    الرد
  2. أ. استاذ محمد علي جمعة عثمان

    مقال شامل وتحليل دقيق أصاب عين الحقيقة بدون مواراة لكن كما ذكرت هي التوازنات التي يلعب الغرب عليها وليت قومي يدركون قبل ضحى الغد.
    وفيت وكفيت وجزاكم الله خيرا كثيرا .

    الرد
  3. Ahmed

    أستاذ آيات
    شكرا على جهد الكتابة في الشأن السوداني
    المعقد
    هناك فرضيتين في مقالك قد تضعف التحليل المبني عليهما لحد كبير
    الأولى أن الجيش السوداني هو مؤسسة قومية.. فقط لأنه تكون قبل 100 عام ، و لكنه تحول إلى مليشيا إسلاموية قتلت ما يقارب ال 2.5 مليون سوداني خلال حرب الجنوب و دارفور ،
    في تقديري أن الجيش فقد حياديته و في واقع الأمر أن القتل و السحل الذي تم في دارفور و جبال النوبة تم تحت اشراف نفس هذا الجيش الذي أطلق يد المليشيا في الناس و كلنا شهود عندما تجاهل هجوم المليشيا على المدنيين في حياضه في القيادة العامة.

    المسألة الأخرى
    هي تثبيت فكرة أن تقدم هي الذراع السياسي للدعم السريع و هي فرية من الإسلاميين كي يألبوا الشارع على الحكم المدني.. و كلنا يعلم أن الجيش و الدعم السريع هما من انقلبا على الحكم المدني لكنهما اختلفا فيما بينهما ، لذا فعندي كلاهما يستويان في الجرم و كلاهما مليشيا و كما قال الجيش الجنجويد خرج من رحم القوات المسلحة فما أشبه الطفل بأمه.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...