رؤيا الطوفان من عالم موازٍ

بقلم: خالد صافي

| 29 سبتمبر, 2024

بقلم: خالد صافي

| 29 سبتمبر, 2024

رؤيا الطوفان من عالم موازٍ

كتب الله الأرض لبني إسرائيل، وطلب منهم على لسان نبيه موسى (عليه السلام) أن يدخلوا الأرض المقدسة، فتذرّعوا بأن فيها قومًا جبّارين وأنهم لن يدخلوها حتى يخرجوا منها..

كان المطلوب منهم بسيطًا وممكنًا وفي مقدورهم.. {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون}، لكنهم استكانوا ذلّة، ورفضوا الدخول عنادًا، وقالوا تعاليًا: {فاذهب أنتَ وربُّك فقَاتلا إنَّا ها هنا قاعدون}، فكانت النتيجة أن تحوّلت الأرض التي كتب الله لهم إلى أرض محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، تحريم لجيلٍ كامل من معرفة الطريق التي تقود لدخول هذه الأرض المباركة، وكأنهم انتقلوا من عالم يتنعمون فيه بالخير والبركة إلى عالم موازٍ يقاسون فيه التيه والحرمان، وهم من اختار المسار في العالم الموازي، لذا كان لابد أن يفنى هذا الجيل المهزوم كليًّا، ويأتي جيل آخر يستحق النصر، يدخل على أعدائه الباب ويفتح البلاد ويملك الأرض.

السابع من أكتوبر المجيد

في السابع من أكتوبر حمل فتية من غزة على كاهلهم مهمة انتهاك عذرية أمن إسرائيل، ودحض أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فاقتحموا المناطق المحيطة بقطاع غزة، ودكّوا المستوطنات، وتعاملوا مع الجنود فيها، فدخلوا عليهم الباب فهزموهم، وجاسوا خلال الديار، وطهّروا الأرض المباركة من المستوطنين الذين فرّوا من 650 كيلومترًا مربعًا في محيط غزة، وكانت الظروف مواتية ليفتحوا البلاد ويملكوا الأرض.

اهتزت دولة الاحتلال في تلك اللحظة، وظهرت على حقيقتها، وأنها أوهن من بيت العنكبوت، فأعلنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة لتسترد شيئًا من هيبتها المفقودة وكرامتها المبعثرة، ومنعت على لسان قادتها الماء والغذاء والكهرباء عن المحاصرين، الذين قالت عنهم إنهم حيوانات بشرية.

رياح التغيير

هبّت الرياح فاغتنمها الرجال، وانطلقت الصواريخ من المقاومة في غزة متزامنة مع الصواريخ من لبنان واليمن والعراق على تل أبيب وحيفا وصفد، لتدك مستوطنات الاحتلال في وقت واحد، وتقصف إيلات وبئر السبع ومناطق متفرقة في نتانيا والخضيرة، وبلا توقف تناثر الرجال كالدر يتسابقون على تنفيذ العمليات الاستشهادية في مناطق مختلفة في الضفة وأراضي الداخل المحتل، ليدب الرعب في قلوب المستوطنين في الحافلات ومواقف السيارات والمطاعم والحانات، وكأننا عدنا بالزمن إلى عصر العيش في التسعينيات.

وأمام هذا الطوفان الهادر استنجد الاحتلال بحلفائه في أوربا وأمريكا، فأرسلت الأخيرة ‏حاملة الطائرات التابعة للبحرية الأمريكية (السفينة USS جيرالد فورد) إلى البحر المتوسط في رسالة هيمنة من النوع الذي يمارسه بلطجي الحارة، فكان الرد الأول من السعودية حين أعلنت عن عقد الاجتماع الطارئ للدول العربية والإسلامية في الأسبوع الأول من العدوان على غزة، وقررت قطع النفط عن الغرب، وإيقاف العلاقات مع الشركات الأمريكية، وتعليق رخصة العلامات التجارية التابعة لحلفاء الاحتلال في المملكة.

وعلى خطاها أوقفت الأردن تصدير المنتجات الغذائية للاحتلال، وألغت صفقة استيراد الغاز الصهيوني، وعلى الجهة المقابلة فتحت مصر معبر رفح لإدخال المساعدات للمحاصرين في غزة على مدار الساعة لتعزيز صمودهم، واستقبلت آلاف الجرحى والمصابين، وأرسلتهم للعلاج في الدول العربية التي أعلنت جميعها قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية والتجارية مع الاحتلال، وانطلقت المظاهرات في دول المغرب العربي دون توقف.

وفي مبادرة غير مسبوقة سمحت الإمارات للمحتجين بالخروج والاعتصام في الشوارع أمام مقار الشركات الإسرائيلية، ما أجبر معظمها على تصفية أعماله والفرار، فألغت الدولة اتفاقية التطبيع مع الكيان بعدما أيقنت أن استثماراته سراب، وأنه غير قادر على حماية نفسه فضلاً عن حماية غيره، وبدأت الدول العربية تعلن واحدة تلو الأخرى سحب سفرائها من إسرائيل، وترسل رسالة لسفير دولة الاحتلال لديها أنه غير مرحب به.. منظر مباني السفارات الإسرائيلية يرفرف فوقها علم فلسطين كان مبهجًا في كل مرة يتداوله النشطاء على مواقع التواصل.

لم تتوقف صافرات الإنذار في المدن المحتلة، إذ أطلق لبنان وحده أكثر من مائة ألف صاروخ على الكيان في الشهر الأول من الطوفان، ولم يلتزم بأكذوبة قواعد الاشتباك، ولم يرتهن لفرية الصبر الاستراتيجي.

بيت العنكبوت

بقي المستوطنون في الملاجئ لشهر كامل، بلا مصانع ولا تجارة ولا زراعة ولا أي عمالة تذكر، ما أصاب الاقتصاد الإسرائيلي بالشلل فانهار الشيكل، وأفلست آلاف الشركات، وهرب المستثمرون وأصحاب رؤوس الأعمال، كما فرّ ثلاثة ملايين إسرائيلي من حملة الجنسية المزدوجة إلى خارج البلاد بلا رجعة، وبدأت الأحزاب في حكومة الحرب تتراشق الاتهامات حتى انهارت، وطالبت بتقديم نتنياهو للمحاكمة بتهمة الفشل في السابع من أكتوبر المجيد، وعدم تحقيق أيٍّ من الأهداف المعلنة للحرب.

الأرض تحفظ الذاكرة

مهلاً.. أعرف أنك تبتهج ولا تكاد تلتقط أنفاسك من الإثارة مع تطور الأحداث، ولكن هذا لم يحدث في عالمنا، ربما حدث في عالم موازٍ، يبتهج فيه العرب والمسلمون هذه الأيام بذكرى تحرير المسجد الأقصى، وينتقلون بين المدن الفلسطينية المحررة يلتقطون الصور مع بيوتهم التي هجّر منها أجدادهم وآباؤهم، ويكتبون أجمل اللحظات لأن “الأرض تبقى في انتظار عودة أصحابها، الأرض تحفظ الذاكرة”.

أعرف أنك تذوب شوقًا لتجربة شعور أول ركعة في المسجد الأقصى المحرر، خاصة في المسجد القبلي الذي صلّى فيه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تتجول بعدها في أسواق البلدة القديمة وأزقتها الضيقة التي تعيدك إلى قرون مضت، تشعر وكأن أزقتها الحجرية تناديك بأصوات التاريخ والروحانية، هناك حيث تشم رائحة الخبز الطازج وتستمع إلى أصوات الأذان تختلط مع أجراس الكنائس، تجد نفسك عائدًا إلى زمن كانت فيه الحياة تدغدغ الروح وتسمو بها، حين تجلس على قمة جبل الكرمل في حيفا، تقارن بين برتقالها وبرتقال ميناء يافا برائحته الزكية.

وحين يشدك الحنين للأهل في الخليل، على بعد مائة وأربعين كيلو مترًا، تهرول إليهم بلا حواجز ولا نقاط تفتيش، لتجلس معهم تحت العريشة تأكل العنب، وتروي لهم حكايا الشوق لجبال صفد العالية وهوائها العليل وبساتينها الممتدة للناظرين.. لابد أنك الآن في ذلك العالم تتجول في سوق الناصرة بأجوائه الشرقية، التي تعج بالألوان والروائح الزكية للتوابل والقهوة العربية.

“أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله..”

يتيهون في الأرض

في عالمنا الحاضر قال العرب عن المقاومة إنها عبثية، لم تشاور أحدًا قبل قتال إسرائيل، إن فيها قومًا جبارين يمتلكون أعتى ترسانة مسلحة في المنطقة، تحميهم أمريكا وأوروبا من خلفها، وإنّا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها، فإن خرجت أمريكا فإنا داخلون، تستغيث بهم المقاومة بدماء مئات الآلاف من الشهداء والجرحى: يا قوم مالكم كيف تحكمون؟ لقد قتلوا الأطفال والنساء، وانتهكوا الحرمات أمام أعينكم، انفضوا الذل عنكم وادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، هذا وعد ربنا لنا.. فما كان جواب قومنا إلا أن قالوا: اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا إنا ها هنا قاعدون.

لا تستغرب أن أمتنا الآن تعيش في عصر التيه، لا تجد السبيل للأرض المباركة التي كتب الله لها، ولا تراه رغم أنه على مرمى حجر، وبدلاً من مقارعة المحتل تطبّع العلاقات معه في تيه مركّب لا تجتمع على رأي للخلاص منه. وما يدريك، لعل خذلان حكامهم أطفال غزة سبب فنائهم أو أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلا تأسَ على القوم الفاسقين.

1 تعليق

  1. نادية العيادي

    مؤثر ومؤلم جدا. من كان يتوقع أن هزيمة هذا الكيان الغاصب وحلفاءه امر ممكن وواقعي إلى هذا الحد. ولكن العرب المسلمين في عالمنا لا يشكلون جسدا واحدا وان كانوا كذلك فهو جسد منهك مريض كل جزء منه غارق في تيه خاص به. و سيبقى العالم الآخر موازيا طالما لم نغير نحن الشعوب من أنفسنا حتى يغير الله ما بنا. و فلسطين هي من دفع الثمن الباهض من حريتها ودماء ابناءها.
    فعلا لا تاسن على القوم الفاسدين.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...