هيراركية الفساد المنسية

بقلم: إبراهيم عبد المجيد

| 16 يوليو, 2024

بقلم: إبراهيم عبد المجيد

| 16 يوليو, 2024

هيراركية الفساد المنسية

 أتكون الهيراركية في تدرج السلطة فقط، أم هي أيضا في تدرج الفساد، واتساعه في الطبقات السفلى اقتداء بالطبقات العليا خاصة حين تكون حاكمة؟. فلنتعرّف بسرعة إلى الهيراركية لندخل إلى موضوعها في مصر التي تهمني.

الهيراركية اصطلاح يعني الهيمنة الاجتماعية بدرجاتها المختلفة من أعلى إلى أسفل؛ هي دائما تضع جماعة السلطة في أعلى الهرم، وتأتي بعدها الجماعات الأخرى، وكلٌّ له عمله في سبيل نهضة المجتمع. غالبا ما تقوم التناقضات بين من هم في أعلى السلطة ومن تحتهم، ومن هنا جاءت الثورات بعد أن صار أهل الطبقة العليا يمتلكون السلطة والمال والأرض، وتركوا الهامش لبقية الجماعات.

الماركسية – مثلا- جاءت لتعبّر عن رفض الطبقة العاملة لهيمنة الجماعة الرأسمالية الحاكمة.. لكن هذا المثال أيضا يأخذنا إلى أخطاء ترتكبها المجتمعات الجديدة التي ثارت على الهيراركية؛ فبعد نجاح الثورة الشيوعية عام 1917، وتحوُّل روسيا إلى الاتحاد السوفييتي، الذي رفع راية المساواة بين الطبقات، حدث أن صارت الميزات كلها لأعضاء الحزب الحاكم، الذين كوّنوا طبقة جديدة فازت بكل ما يجب أن يفوز به الشعب، فحدث تفسُّخ الاتحاد السوفييتي منذ بداية التسعينيات.. أُعطي هذا المثال لأنه الأقرب في التاريخ، والأكثر وضوحا على الهيراركية التي تنتقل حتى إلى من ثاروا عليها لتكون أساس حكمهم.

فهمي للأمر في بلد مثل مصر بسيط جدا، وهو أن ما تتمتع به السلطة يتمتع به من تحتها بالنسبة لمن هم تحته؛ فالوزير الذي يخضع لسلطة رئيسه مثلا يمارس سلطتة على من هو تحته، وهذا بدوره يمارسها على من هو تحته أيضا، وهكذا حتى نصل إلى الموظف العادي الذي لا يجد من يمارس عليه سلطته غير زوجته وأولاده. وبشكل عام، تتميز الهيراركية في كل الجماعات بين الرجال والنساء، فيكون للرجال الكلمة الأعلى، لكنها هنا تزداد وتصل إلى مرحلة قهر النساء.

كتبت في هذا المعنى من قبل، لكن ما وقع في مصر منذ أيام يجعلني أشير إلى شيء آخر بعيد عن السلطة، أقصد أنه بعيد عن الحكم وطريقته في عدم الاستماع إلى أي معارضة. لقد انتظرنا شهرا كاملا حتى تم تشكيل الوزارة الجديدة؛ وبعيدا عما أثير عن الأسباب، وكلها أسباب مفترضة، فلا أحد يعرف الحقيقة، تم في النهاية تشكيل الوزارة، وأبرز الأحداث في تشكيلها كان اختيار وزير التربية والتعليم الجديد.

في عالم السوشيال ميديا فرصة كشف المستور كبيرة؛ على الفور ظهرت أقوال عن أنه لم يحصل على الدكتوراه ولا على الماجستير من أميركا كما يقول، وأن الجامعة التي يشير إليها وهمية.. اشترك في ذلك معارضون بالخارج فُنشرت فيديوهات تعرض كل الشهادات التي حصل عليها الوزير، وتشير إلى أن التصديق على مثل هذه الشهادات في أميركا هو تصديق شكلي، يعني الاعتراف بأنها مِلك لمن تقدم طالبا التصديق، لكن لا يؤكد أنها صحيحة.

شاركت في ذلك أيضا أسماء من الداخل، الأسماء كثيرة، بل راسل شخص يعيش في الخارج الجامعة التي قال الوزير إنها منحته الماجستير، فردت عليه بخطاب نشره، وجاء فيه أنها لا تمنح أكثر من الليسانس، وفي الفنون فقط لا في فروع علمية أخرى. أنا شخصيا لم أنتظر ردا من الحكومة لأنها هي التي اختارته، ولا يمكن أن يغيب عنها ذلك، ومن ثم حين جاء الرد جاء باهتا يقول إنه ليس مهما ما يقال عن الدكتوراه أو الماجستير، المهم أنه حاصل على شهادة جامعية، كما يقتضي القانون.

الحديث في هذه النقطة طويل، لكن المهم فيها – بعيدا عن كون الشهادات مزورة أو غير مزورة- هو أن هذا حدث مع وزير التربية والتعليم.. وزارة التربية والتعليم تشغل كل الطبقات، لأنها تعنى -كما هو واضح من اسمها- بالتربية والتعليم في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وهي فترة التكوين لأي إنسان من أي طبقة. هنا هل ستكون الهيراركية سببا في سيطرة الوزير على من تحته، وسيطرة من تحته على من تحتهم وهكذا فقط، أو سيكون للهيراركية شأن آخر هو انتقال التزوير من أعلى إلى أسفل، تطبيقا للمثل الشعبي القائل: “إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”.

قد تبتعد الهيراركية هنا عن تدرج السلطة إلى تدرج التزوير والفساد، ويكون لكل من يشاء تهريب الامتحانات – مثلا- قدوة في ما قيل عن الوزير، ولن يشعر أنه يفعل ما هو ضد القانون الذي عادة يتم اختراقه سرا وبأشكال محدودة.. سيتسع الأمر، وربما نرى تلميذا يتم ضبطه يغش في الامتحان، فيقول: “أنا باعمل اللي عمله الوزير”؛ لكن الفساد حين يصل إلى القاعدة لن يكون قليلا، فالقاعدة هي الأكبر والأعرض، وفيها جماعات كثيرة وأعمار مختلفة.

في الوقت ذاته تقريبا انتشر فيديو عن اجتماع عدد من قيادات حزب الوفد في مقر الحزب، يتحدثون عن عملية تهريب آثار سيقومون بها! أصدر الحزب بيانا قال فيه إنه سيحقق في ذلك. لكن ما يهمني هو أن هذا يحدث في حزب، وليس في وزارة أو أحد مراكز السلطة.. نعرف أن الأحزاب في مصر شابها ضعف كبير؛ بعضها صار في ركاب السلطة، وبعضها يقاوم، وذلك  لأسباب عديدة جاءت بنتائجها السلبية مع الزمن، وعلى رأسها التضييق على نشاطها. لكن أن يجتمع بعض قياداتها في مقر الحزب نفسه لعملٍ آخر شائن في البلد مثل تهريب الآثار، فهذا جديد! والسؤال: ماذا سيفعل الأعضاء مثلا؟ وهل سيتأثرون بقادتهم في هذا كما يتأثرون بهم في المعارضة السياسية أو حتى الموالاة؟ 

 أنتقل إلى حادث ثالث، وهو موت لاعب الكرة أحمد رفعت بالسكتة القلبية، التي أصابته مرة من قبل أيضا.. كل الأخبار تتهم عددا من رجال الأندية والإعلاميين، وأنه مات قهرا، وأن وراء ذلك مسائل مالية. لن تتضح كل مفردات الحقيقة إلا حين ينظر فيها القضاء، لكن الشركة المتحدة للإعلام أنهت البرنامج التليفزيوني لأحمد شوبير، حارس الكرة السابق، وعضو مجلس الشعب السابق أيضا، والمعلق الكروي، الذي يشير إليه بعضهم ضمن من قهروا اللاعب أحمد رفعت.. اختيار هذا الوقت لإنهاء برنامج أحمد شوبير قد يكون إشارة إلى صحة الاتهام أو ابتعادهم عن المسؤولية، لكن الأهم في نظري هو أن ذلك سيحدث مع من هم أقل سلطة منهم.

هناك تجلٍّ آخر في الفساد، وهو ما قيل عن اختيار لاعبة سباق الدراجات شهد سعيد لتمثيل مصر في أوليمبياد باريس 2024. اللاعبة نفسها سبق لها أن أصابت لاعبة اسمها جنة عليوة، كانت قريبة من الفوز بالمركز الثالث على مستوى الجمهورية، وفازت حينها شهد، فكان الفوز طريقها للترشيح للخارج. وقد قرأت وأنا أكتب هذا المقال أنه سيتم التراجع عن القرار، لكن هل سيقتنع أحد أن التراجع طبيعي وليس استجابة لضغوط السوشيال ميديا؟

فيديو اعتدائها على اللاعبة الأخرى تم تداوله بشكل واسع، لكن ترشيح المعتدية لأوليمبياد باريس كان سبب الانتشار.. أليس هذا الترشيح تجليا للفساد في مواقع السلطة الأكبر مع الأمثلة التي أوضحناها، وقد يتدرج إلى المواقع الأصغر. والتراجع عن القرارات ليس في كل مرة مضمونًا.

كيف سيكون حال البلاد حين يتسع هذا الفساد في الطبقات الأدنى، ويصبح ظاهرة لا يستطيع القانون إيقافها بسهولة، لأنها حين تتسع ستؤدي إلى حالات من الفوضى الكبيرة.. فهل ننتظر هذه الفوضى؟

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...