من الفروسية إلى الشماتة.. انهيار المروءة العربية

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 20 أكتوبر, 2024

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 20 أكتوبر, 2024

من الفروسية إلى الشماتة.. انهيار المروءة العربية

من يرى ويتأمل في حياة من استمرؤوا الشماتة بالصالحين يجد أنهم أشخاص يعيشون في انفصام داخلي بين ما يدّعونه وما يضمروه، وبين ما يعلنونه وما يخفونه في قلوبهم.

لذلك، حين يرى الشامتُ المؤمنَ يمر بمحنة أو اختبار، فإنه يستغل هذه الفرصة ليظهر شماتته، محاولًا إقناع نفسه والآخرين بأن ابتلاء المؤمن هو دليل على ضعف إيمانه، أو إخفاقه في التمسك بالعقيدة ونضاله من أجل رفع الظلم عنه وعن أهله وشعبه. وأجد أن هذا التصرف لا يعكس إلا مزيدًا من التناقض في شخصية المنافق، لأنه في قرارة نفسه يعلم أن المؤمن يتعرض للابتلاءات كجزء من سنن الله في الكون، حيث يُختبر الناس في إيمانهم، وتُرفع درجاتهم بالصبر والتحمل.

وإن أتينا من منظور فلسفي، يمكن أن نرى شماتة هؤلاء بالمؤمنين على أنها نوع من الصراع النفسي مع الحقيقة المريرة؛ فالشامت الذي يعجز عن مواجهة نفسه والاعتراف بنفاقه المعنوي، يجد في آلام المؤمنين والمناضلين وسيلة لإسقاط مشاعره السلبية عليهم. فهو يُسرّ بتلك المحن لأنها توفر له مخرجًا من مواجهة تناقضاته الداخلية، حيث يتغذى على معاناة المؤمن ليخفي ضعفه الذاتي، ويحاول إظهار تفوقه المزعوم.

فالشماتة بالخصم هي واحدة من أدنى صور التشفي الإنساني، وهي تعبير عميق عن نقص في كمال الذات، وضعف في الأداء الروحي للإنسان؛ فإن الفرح بمحنة الآخر، سواء كان خصمًا أو غير ذلك، يعكس انتكاسة كبرى في المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي بنيت عليها القيم النبيلة والمثل العليا النجيبة. ففي جوهر الفلسفة الأخلاقية، يذكر الحكماء أن الإنسان كائن أخلاقي، الأصل فيه أنه يسمو فوق الغرائز الدنيا، ويبحث عن المعاني الأسمى في علاقته مع الآخر، فإن لجأ إلى الشماتة فقد تمثل شكلاً من أشكال الانحدار إلى مستوى الغرائز البدائية، وهي سلوك يعري النفس من نبلها.

وياللعجب.. كيف للعربي الحر أن يستمرئ الشماتة بخصومه، وهو من شهدت له الأيام الخوالي بفروسيته مع خصومه؟ فكيف لوكان خصمك منك ومن دينك ومن عروبتك، وتقف مع عدوه الغاشم الظالم الذي ينكل فيه؟!! إن ذلك سقوط ما بعده سقوط! فالفكر العربي، الذي تشرب بمفاهيم الكرامة والمروءة، قد أدرك منذ القدم خطورة هذا السلوك على المجتمع العربي والفرد العربي على حد سواء.

فالعرب في تقاليدهم لم يروا في الشماتة سلوكًا يُعلي من شأن الشخص، بل على العكس، اعتبروها علامة نقص في الشرف والمروءة؛ فالمروءة العربية ما زالت تعبيرًا عن رجولة أخلاقية وقوة معنوية مثلى، وتأبى الروح العربية أن تشمت في خصم يمر بمحنة. بل إن شرف العربي يتجلى في قدرته على مد يد العون لعدوه في ساعة الضعف، لأنها لحظة يتجاوز فيها الفرد صراعاته الشخصية ليعكس جوهر الإنسان.

وفي القرآن الكريم، ذُكرت مواقف الشامتين كنوع من أنواع المنافقين في مواضع متعددة، وجاءت الآيات تحذر المؤمنين من الوقوع في فخ الشماتة وبيّنت خطورة المنافقين في سعيهم للإضرار بالمؤمنين عبر السخرية والتشفي، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى خروجهم من الدين بالكلية، وهذا مكمن الخطر .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...