من وحي إبادة غزة: أين زمن حروب العراق وإيران وسعدون جابر وكاظم الساهر؟!
بقلم: شريف عبدالغني
| 17 سبتمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: شريف عبدالغني
| 17 سبتمبر, 2024
من وحي إبادة غزة: أين زمن حروب العراق وإيران وسعدون جابر وكاظم الساهر؟!
أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وكنت قد بلغت حينها العاشرة من عمري، بدأت بالتدريج قراءة الصحف. لا أعرف لماذا شدتني أخبار الحرب العراقية – الإيرانية، وما الذي فيها ليجذب طفلاً؟
ربما لأنني كنت قد بدأت حفظ عواصم الدول المختلفة وأهم المدن فيها، وكان هذا شيئاً ممتعاً لي.. من هنا استقرت في ذاكرتي بغداد وطهران كعاصمتين للبلدين المتناحرين، ومن ثمّ عرفت أسماء مدن ومناطق أخرى تتكرر في متن أخبار الحرب مثل “البصرة” و”عبدان” و”شط العرب”.
ثم انتقل الشغف إلى متابعة نشرات الأخبار بالتلفزيون، إذ كانت تبث الكثير من تفاصيل تلك الحرب التي استمرت ثماني سنوات. كان اللافت في أخبار ومشاهد حرب الخليج الأولى- التي عرفت الكثير من تفاصيلها لاحقاً- أنها كانت في المناطق الحدودية، وأن غالبية الهجمات تمحورت على أهداف عسكرية، وليست مدنية، فلم نشاهد صور أطفال مُشردين، ولا عائلات تحمل بعض متعلقاتها نازحة من مكان إلى آخر، أو جثثا مبعثرة في شوارع وطرقات كبريات مدن البلدين، ولا مناظر دمار على المنازل والعمارات السكنية.
بل إن العكس هو ما كنا نراه ونقرؤه ونسمعه عن بغداد تحديداً؛ فقد كانت المدينة في أبهى حلة خلال فترة الثمانينيات.. المصريون كانوا يروحون بالملايين إليها ويأتون مُحملين بالخير، يحكون أن شوارع عاصمة الرشيد تُغسل يومياً بالماء والصابون، وكل السلع متوافرة، وأن العراقيين يعيشون في رغد.
ليس هذا وفقط، بل كانت بغداد تزدان على مدار العام بحفلات ومهرجانات فنية وثقافية، وصوت سعدون جابر وغيره من المطربين يصدح بشكل منتظم بأعذب الألحان. وفي ظل الحرب كان الدوري العراقي لكرة القدم يتواصل بشكل منتظم، ومنتخب “أسود الرافدين” يسيطر على البطولات الخليجية والعربية، ويصل بجدارة إلى مونديال المكسيك 1986.
لم تكن أجواء حرب بالمعني الحرفي؛ لهذا لم تكن الحروب تشكل في وجداني كطفل كل المخاوف التي يتحدث علماء النفس عن تأثيرها على الصغار.
في مرحلة الصبا، وبالتوازي مع الحرب الدائرة في شرقي الأمة العربية، كانت الغارات الأمريكية على ليبيا في أبريل 1986، والتي- كذلك- لم نر فيها المشاهد المروّعة للحروب؛ إذ انتهت سريعاً لتخرج بعدها احتفالات في “الجماهيرية الليبية” بالانتصار على “الإمبريالية الأمريكية”، وليتحول اسم بلد “ثورة الفاتح من سبتمبر” رسمياً إلى ” الجماهيرية العظمى”.
ودّعنا الصبا ودخلنا مرحلة الشباب، عاصرنا خلالها دخول العراق إلى الكويت.. قادت واشنطن التحالف الدولي ضد صدام حسين، وبدأت حرباً عنيفة ليلة 16 – 17 يناير 1991، لم نشاهد خلالها كذلك مناظر قتل المدنيين، ولا أشلاء جثث متناثرة، ولا بغداد مُدمرة، أو الناصرية أكوام تراب.. لم نر بيوت الموصل تسكنها الغربان، أو أن الرمادي فقدت كل مقومات الحياة، وإنما كانت معظم الغارات على أهداف عسكرية، وبقي غالبية المدنيين في مأمن من الهجمات.
وكعادة أهلنا في العراق، وحبهم للحياة رغم الأوجاع الكربلائية، فقد سارت حياتهم بعدها شبه طبيعية رغم الحصار القاسي، وخرج صوت كاظم الساهر ليشدو علناً بأروع قصائد الحب لنزار قباني. تلك القصائد التي كان الريفيون من أمثالي يقرؤونها خلسة بعيداً عن العيون، خجلاً من مضامينها وعباراتها.
في مرحلة النضج، وقعت الواقعة ودخل الجيش الأمريكي بعتاده ودباباته في العمق العراقي نفسه من جنوبه إلى شماله، لاحتلاله في العام 2003. كالعادة، لم تكن هناك مشاهد مروّعة أو قاسية منذ بداية الحرب وحتى اكتمال الغزو.. كان الأمريكيون يتعاملون مع جيوب المقاومة في هذه المدينة أو تلك، إلى أن دخلوا بغداد وأعلنوا سيطرتهم على البلاد بعد إسقاط تمثال صدام في ميدان الفردوس بتاريخ 9 أبريل من العام ذاته.. لم تُذع الشاشات في كل هذه الأجواء مآسي إنسانية.
هذا ما عاصره جيلي من حروب، منذ الطفولة إلى الكهولة.
معظم مشاهدها لم تؤثر بالسلب على نفسيتنا، ولم تجعلنا يوماً نخشى أن نتابع أخبارها على الشاشات. وقبل هذا وبعده، كان ثمة مواقف عربية حقيقية داعمة للعراق في الحرب ضد إيران، أو مؤيدة للكويت وقت الغزو العراقي، أو حتى وقت حصار بلاد الرافدين وبعد الاحتلال، كانت ثمة جهود عربية رسمية لتخفيف الوطأة عن العراقيين.
لكن..
ما يحدث في غزة طوال نحو عام لم يعاصره جيلي طوال حياته، ولم يخطر على البال أن تكون هناك فظائع على هذا النحو.
إذا كنا ونحن أطفال وصبية شاهدنا الحروب حينها دون غضاضة، أو خشية من كوابيس تطاردنا في النوم، فإننا وقد كبرنا وغزا الشيب رؤوسنا لا نطيق مشاهدة يوميات المذبحة في غزة. هناك حالة شبه عامة لرجال صاروا بمشاعر طفولية، لا يستطيعون تحمل متابعة أهوال ما يجري لبشر لا يدركون ماذا جنوا ليتعرضوا لكل هذه الإبادة.
إن 8 سنوات من الحرب العراقية الإيرانية، وحالة البلدين حينها، خاصة العراق كما سبق ونوهت، هي بمثابة نزهة أمام ما يجري في غزة. كما أن العدوان على العراق خلال حرب الخليج الثانية 1991 لم يستمر سوى 42 يوماً، وكذلك احتلال بلاد الرافدين كلها في 2003 لم يستغرق أكثر من 26 يوماً، وبعدها عاد الناس إلى حياتهم. نعم، كانت هناك منغصات وتأثيرات للحرب، لكنها إجمالاً كانت “حياة”.. بينما أهالي غزة يمرون بأبشع ما يتعرض له بشر ربما طوال تاريخ الحروب.
فلم يسبق أن تعرض نحو مليوني مدني إلى حرب إبادة طوال أكثر من 11 شهراً حتى الآن، في مساحة جغرافية متناهية الصغر، يبلغ طولها نحو 41 كيلومترا، وعرضها يتراوح بين 6 إلى 12 كيلومترا. كل يوم ينزحون من منطقة موت إلى أخرى، وأينما يكونوا تلاحقهم القنابل والصواريخ، مع تدمير كامل لمقومات الحياة.
إننا نحن الكبار نخشى مشاهدة ما يحدث في غزة، فما الحال بمن يعيش في قلب النار؟!
وإذا كان أطباء النفس يتبارون في شرح كيفية حماية أطفالنا من صور غزة، وتجنب تأثيرها على نفسياتهم، فما بالنا بأطفال غزة الذين هم وقود تلك المشاهد؟!
في بداية حرب الإبادة، كانت فورة حماس الجماهير العربية شديدة، وهم يتابعون الأحداث. شيئاَ فشيئاً اعتادت العقليات والعيون والقلوب على تلك المشاهد، فلم يعد موت نفس بريئة أو حتى عشرة أو عشرين يؤثر فينا، بل ننتفض عند مجزة موّسعة مثل مذبحة المستشفى المعمداني. لا بد أن يكون الضحايا بالعشرات حتى ننتبه لما يعانيه إخوتنا فندعو لهم، قبل أن نواصل حياتنا.
عدم قدرتنا على مشاهدة تلك الفظائع هو- ربما- نوع من الهروب من تحمل المسؤولية نتيجة العجز وقلة الحيلة وقهر الرجال.
إن ما يحدث في غزة، ستظل آثاره وتبعاته باقية لعشرات السنين في نفوسنا، ولا يعلم إلا الله كيفية ترميم نفسيات من سيتبقى من أهالي غزة، وخصوصاً أطفالهم الذين يعيشون الموت كل وقت، ويشمون رائحته في طرقات نزوحهم مع أسرهم.
أما مسؤولو الأمة وكبارها ومصدر فخرها، فهم بعيدون تماماَ عن هذه المعاناة؛ فلا هم ضعفاء مثلنا، ولا عاجزون كحالتنا؛ إنهم عمالقة وأقوياء وقادرون على.. شعوبهم !
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
أتفق معك بأن أهوال الحرب على غزة فد فاقت الوصف ، لكن تبقى الحرب هي الحرب في كل زمان و مكان ، ربما الإختلاف هو أن التكنولوجيا التي نعيشها في زماننا هذا كان لها الأثر الكبير في نفل الواقع بالصوت و الصورة ساعة وقوع الحدث .. كل ما نحتاجه كاميرة موبايل صغيرة و ماهي إلا لحظات قليلة و ينتشر الخبر بشكل واسع .
لقد رأيت اعتراف لجندي أمريكي يعترف باشتراكه هو و عدد من الجنود في اغتصاب فتاة عراقية تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً ، يصف بدم بارد كيف كانت تصرخ و تستغيث وسط ضحكاتهم و كيف أنها شنقت نفسها بعد اعتدائهم الوحشي عليها .
لقد تعرفت على صديقة لي في الجامعه من العراق ، كانت قد فقدت كل أسرتها في قصف صاروخي استهدف سيارتهم وهم في طريقهم إلى بغداد و نجت صديقتي تلك لأنها لم تسافر معهم .
يبدو أن التكنولوجيا الحديثة هي من وضعتنا تقريبا في قلب الحدث .
لكن الغريب في كل هذا أننا كلما شاهدنا مشاهد القتل و الدماء أكثر ، كلما زاد تبلد مشاعرنا كما ذكرت في مقالك .
أسأل الله أن يستعملنا الله في تحرير أراضينا المقدسة وألا نكتفي بدور المشاهدة فقط.