البطانة قبل الإدارة
بقلم: د. عبد الله العمادي
| 4 سبتمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: د. عبد الله العمادي
| 4 سبتمبر, 2024
البطانة قبل الإدارة
أول ما يمكن أن يبدأ به أي مسؤول عمله هو القيام بالاختيار الدقيق للبطانة، أو من سيكونون حوله، أو- بتعبير إداري أدق- أن يختار فريق العمل الخاص به، الذي معه يتحرك ويعمل. فإن نجح في هذه الخطوة، فالخطوات القادمات تكون سهلة يسيرة، أما إن فشل في هذه البداية، فالطريق سيكون شاقاً غير يسير.
في الحديث عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله ﷺ: “إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه. وإذا أراد به غير ذلك، جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكّره، وإن ذكر لم يُعِنه”.
الأمير- كما جاء في الحديث الشريف- هو كل من ولي أمر مجموعة من الناس، سواء كان رئيس قسم أو مدير إدارة وصولاً إلى الوزير ثم رئيس الدولة.. كل أحد منهم بحاجة إلى شخص صادق ثقة، أو مجموعة أشخاص صادقين ثقات، مهمتهم تقديم كل العون للأمير على أداء مهامه بما يرضي الله. وقد سارع النبي موسى- عليه السلام- بالطلب من الله بعد تكليفه بالنبوة أن يجعل له من أهله أخاه هارون وزيراً، يشدّ به أزره ويشركه في أمره، وما أعظمه من أمر! وما أكبرها من مسؤولية!
ما هي البطانة؟
مما سبق نرى أهمية بالغة لقيام أي مسؤول بتشكيل أو اختيار البطانة أو فريق العمل، قبل أن ينطلق نحو تحقيق الأهداف والمهام الموكولة إليه. والبطانة في اللغة هي الجزء الموجود داخل الثوب وجمعها بطائن، وظاهر الثوب يسمى الظِهارة. وبطانة الرجل- كما جاء في زهرة التفاسير- خاصته الذين “يعرفون خفايا أمره، ومكنون سره، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة”.
بطانة الرجل منا قد تتكون من زوجته- مثلاً- وبعض أبنائه وأخلص أصدقائه.. وبالمثل، تكون بطانة المدير أو الرئيس أو الزعيم مجموعة من المقربين إليه، الأكثر أمانة وإخلاصاً وصدقاً، أو هكذا المفترض أن تكون بعض أهم معايير اختيار أفراد البطانة، والتي سنذكرها بشكل أوضح لاحقاً.
القرآن الكريم أشار إلى أهمية هذه الفئة، وضرورة الاعتناء بمسألة الاختيار كما في قوله تعالى: {يا أيُّها الّذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالًا}، حيث ينهى الله المؤمنين بهذه الآية- كما يقول القرطبي- أن “يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم”. ويضيف القرطبي قائلاً: “… وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسوّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء”.
لكل مسؤول بطانتان
روى البخاري عن أبى سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله. لاحظ أن في الحديث إشارة مهمة إلى مدى وعظمة تأثير البطانة على صاحب القرار.. بطانة صالحة وأخرى طالحة، الأولى تأمر بالخير والأخرى بالشر، والمعصوم- كما في الحديث- من عصمه الله.
أي إن من يقوم بتشكيل بطانته لا بد أن يستعين بالله، يسأله الهداية والتوفيق في الاختيار، لأنه لن يكون يسيراً إلا على من يسّره الله عليه، وبالتالي فإن أي تقصير أو تهاون في الاختيار، من شأنه إتاحة المجال لعناصر ربما تكون نواة لبطانة سيئة ستتشكل بعد حين، وتكون وبالاً وخبالاً، أي فساداً واضطراباً للرئيس أو القائد، ومن يكونون تحت إمرته وفي أمانته، وبالتالي سيتحمل هو المسؤولية في المقام الأول، ولن تكون البطانة هي الملامة عند أي تقصير أو مشكلة، لأنه هو من قام بتشكيل الفريق المحيط به أو البطانة.
أي إنسان منا- مهما كان وضعه الوظيفي أو القيادي، وقبل ذلك الإيماني- يتأثر بمن حوله من الأصدقاء والخلان؛ فإن كانوا صالحين أصلحوه، وإن كانوا فاسدين أفسدوه. هكذا بكل اختصار، دونما حاجة لكثير شروحات وتفصيلات، والمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل، كما قال ﷺ.
من هنا تظهر أهمية قيام صاحب المسؤولية، أو من يحمل أمانة إدارة كيان ما، بحسن اختيار بطانته، أو- إن صح وجاز لنا التعبير- قيامه هو بنفسه على صناعة بطانته، وذلك من مسؤول أصغر وحدة في وزارة ما- مثلاً-، مروراً بالقسم والإدارة والوزارة نفسها، وانتهاء بالدولة.
هذه صفات البطانة
من يرغب بالاقتداء أو السير على النهج العمري، أو أسلوب الفاروق عمر بن الخطاب في تشكيل البطانة واختيار المسؤولين، لا شك أن بطانته ستتكون من راشد رشيد، وناصح أمين، وصادق صدوق، وحفيظ عليم، ومستشار مؤتمن؛ يجمعهم إيمان وتقوى من الله، يستشعرون ثقل المسؤولية والأمانة. ولن يكون مستغرباً كذلك ضمن البطانة وجود خل وفيّ، أو أخلاء أوفياء، خلتهم أو صداقتهم مبنية على الحب في الله، وليس على الانتهازية والاستغلال والمصالح الشخصية، ونستذكر هنا قوله تعالى: {الأخلّاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلّا المتّقين}، على اعتبار أن الصداقة الحقيقية في الدنيا هي التي تكون مبنية على الحق والعمل الصالح، وهي المرجو ثوابها في الآخرة.
وعندما تكون تلك هي صفات البطانة أو ما يميزها، فلا ريب أن العواقب والمآلات ستكون محمودة طيبة.. ستكون بطانة معينة للمسؤول على الخير وما فيه صالح الأمة، ومانعة عنه الشر وما فيه فساد للأمة. قال ابن كثير وهو يصف نموذجاً للمسؤول ودور البطانة وقوتها في توجيهه- وهو هنا يعني الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز- الذي “كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة!. كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمراً بدونهم، أو من حضر منهم، وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب”.
بطانة عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) لا شك أنه كان لها دور في ما نعمت به الأمة من الرخاء والعدل والأمن، في عامين هما مدة خلافة عمر؛ فلم يكن (رحمه الله) يتحرك وفق أهواء وأمزجة متقلبة، بل وفق علم وفقه وإيمان، تسانده بطانة صالحة كانت أكثر كفاءة وعلماً منه، وليس في ذلك ما يعيب المسؤول، فإن قوة وكفاءة البطانة هي في صالحه قبل صالح الأمة.
وليس شرطاً أن تكون البطانة جيشاً من خبراء ومستشارين، فقد تكون البطانة رجلاً واحداً، لكنه بألف رجل. ولنا في موسى (عليه السلام) النموذج، كما أسلفنا في بداية الحديث، فقد كان هارون (عليه السلام) هو البطانة، وهو المستشار.. ولنا كذلك قبل أي أحد في رسولنا الكريم ﷺ، ثم خلفائه الراشدين، القدوة الحسنة في هذا الأمر.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق