البيع الخاسر

بواسطة | يونيو 20, 2024

بواسطة | يونيو 20, 2024

البيع الخاسر

تمر على الإنسان في حياته غرائب وعجائب، قد يستبعد منها أشياء ولا يظنها واقعة في زمانه، ثم تبديها له أيامه، وقد أنكر العرب قصص الخرافة والغول والعنقاء وغيرها، ولو أن مدّعٍ ادّعى رؤيتها أو معاينتها لكذبوه، وربما رموه بما يجعله مكذَّبًا أبد الدهر فلا يصدقه أحد؛ ولكنهم ما أنكروا وجود الأعاجيب والغرائب، وقد رأينا في زماننا من تلك الأعاجيب ما لو حدثنا به الأسلاف لقالوا إن ما تحدثون به كعنقاء مُغرب.

وما زالت أحداث غزة منذ اندلاع طوفان الأقصى تُظهر لنا شيئًا من الأعاجيب والغرائب، ومن تلك الغرائب ما يبلغنا عن قتل بعض المجندين العرب في جيش الاحتلال على يد المجاهدين البواسل، فقد نفق ثمانية جنود من الجيش الغازي في يوم عرفة 1445 الموافق 15/ 06/ 2024، وكان من ضمن أولئك المنافقين ضابط عربي درزي برتبة نقيب، يدعى وسيم محمود، وقد أعادني هذا الحدث  بالذاكرة إلى بضعة أشهر سابقة، حيث انتشرت صورة حملت كل معاني العجب والاستغراب، مما لم أخل رؤيته ومشاهدته في حياتي، بل لم أستوعبه عند مشاهدته للوهلة الأولى.

وجدت ذلك في رؤية تابوت مُسجّىً مكتسٍ بعلم دولة الاحتلال الصهيوني، وقد اصطف خلفه جماعة من المسلمين، يؤدون صلاة الجنازة على ذلك المُسجى! ولا أخفي أن النفس خالجها خليط من المشاعر، ما بين فرح واغتباط بهلاك أحد جنود الاحتلال، حيث يدل العلم المسجى به تابوته على كونه جنديًا، وحزن على حال ذلك الجندي الذي يلزم من صلاة المصلين عليه كونه مسلمًا. لكني قمت بتأميل النفس بكون هذه الصورة ملفقة أو مصطنعة أو مفبركة أو من فعل الإعلام الصهيوني، وأنا أتمثل قول الشاعر:

أعلل النفس بالآمال أرقبها          ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل

وما هو إلا وقت قصير حتى تبينت تفاصيل الحادثة، فكان ذلك هو أحد الجنود الذين لقوا حتفهم في عملية للأبطال المجاهدين في غزة في مخيم المغازي، وقد هلك فيها قرابة عشرين جنديًا، وكان ذلك الجندي المُسجى يخدم في صفوف جيش الاحتلال رغم كونه فلسطينيًا مسلمًا، وقد نشر عبر أحد حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي صورة له في ساحات المسجد الأقصى، كما نشر دعاءً يسأل الله فيه حسن الخاتمة.

اختلطت عندي مشاعر الغضب والعجب والاستغراب والامتعاض والاستهجان والحزن، وعجب أكبر من فعل أولئك القوم الذين وقفوا للصلاة على صاحب التابوت، وانعقد اللسان إلا عن “لا حول ولا قوة إلا بالله” و”نعوذ بالله من الخذلان”؛ وحضرني في هذا الموقف قول الله تعالى: ﴿‌ومن ‌النَّاس من يُعجِبكَ قَوْله في الحياة الدُّنيا ويُشْهِد اللَّه علىٰ ما في قلبهۦ وهو ألدُّ الخِصام﴾ [البقرة: 204]، فالرجل مسلم المولد، وهو كذلك في حياته كما تبين من دعائه، ولكنه حارب في غزة من يفترض كونهم أخوته في الدين من المسلمين، فكان فعله فعل ألد الخصام، وقد قال تعالى تعقيبًا على من هذا شأنه: ﴿وإذا تولَّىٰ سعىٰ في الأرض ليُفسِد فيها ويُهلِك الحَرْث والنَّسلۚ واللَّه لا يُحبُّ الفساد﴾ [ البقرة: ٢٠٥]، وأي فساد أكبر من الفساد الذي تقوم به قوات العدو الغاشم على أرض غزة؟ وأي إهلاك للحرث والنسل أفظع من إهلاكٍ حدث بفعلهم؟ ولي ولكم كفاية بما ذكر الله تعالى في الآية لنعرف جزاء من ذلك فعله.

وعجبًا من صلاة المصلين والداعين بالرحمة والمغفرة لقتيل محارب للمسلمين موالٍ للكافرين المعتدين الظالمين! فأي أي عقل لأولئك؟ ألم يقرؤوا قول الله تعالى بُعيد آيات من الآيات السابق ذكرها ﴿سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيةٍ بيِّنةۗ ومن يبدِّل نعمة اللَّه من بعد ما جاءتْه فإنَّ اللَّه شديد العقاب﴾ [البقرة: 211]، ألم يروا آيات الله وهي تتحقق وتتجلى في غزة، أم لم يقرؤوا سيرة النبي ﷺ ليستفيدوا منها ويعلموا أن الإسلام علمنا الأخوّة في الدين فصار بلال الحبشي وسلمان الفارسي رضي الله عنهما سادة الناس، وأبو لهب القرشي عم النبي أعدى الأعداء؟ وكذلك تبرؤ الصحابة رضي الله عنهم من أقرب الناس لهم ممن عادى الله ورسوله والمسلمين، بل ألم يقرؤوا في سير العرب من أهل الجاهلية، الذين عظمت في عيونهم الخيانة، وازدروا الخائنين أيما ازدراء؟ ألم يدروا بحال أبي رغال الذي صار قبره بالمغمس مرجمًا للعرب، توافقوا على رجمه جزاء خيانته المتمثلة في معاونة أبرهة الأشرم لتوليه دلالته إلى طريق مكة ليهدم الكعبة؟

وأعجب العجب ممن يعتذر لذلك الجندي أو المصلين على جثمانه بكون فعله خدمة للبلد الذي يحمل جنسيته، وأن قتال أهل غزة مما يحقق الاستقرار لدولته! حقّا هي غرائب يصدق فيها قول الشاعر:

لكل داء دواء يستطب به        إلا الحماقة أعيت من يداويها

ومكمن الداء العضال في غياب عقيدة الولاء والبراء، فالولاء لله ورسوله والمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين، ولذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول فيما ينسب له: “لو رأيتموني والمصحف على رأسي أقاتل مع التتار فاقتلوني”. كما أن معانيَ مثل طاعة الله تعالى وتقديمها على طاعة من سواه باتت غائبة عند بعض الناس، والأصل أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وذلك إذا كان الآمر ليس العدو الظاهر، فكيف إذا كان الآمر عدوًّا ومحتلًّا لأرض المسلمين، ويقاتلهم جهارًا نهارًا دون حياء، وفي مشاهد حية تتناقلها الشاشات عبر العالم.

فأما أولئك الجنود فقد خسر بيعهم، وقد أفضى كلٌّ إلى ما قدم وحسابه عند ربه وهو حسبه، وأما فعله فهو مما تبرأ منه ذمة المسلمين، وهو في مقاييس الدنيا دخل مزابل التاريخ غير مأسوف عليه. وأما المصلين الداعين بالرحمة، فنسأل الله أن يلهمهم الرجوع إلى الصواب، والتبرؤ ممن حارب المسلمين قصدًا وعمدًا ووالى الكافرين، ولا يكونوا كمن قال الله في حقهم: ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ [البقرة: 85]. ولعل مرد ذلك لتأخير ما حقه التقديم، كتأخير الأخوة الإسلامية، وكذا اعتبار التدين والشريعة أداء أحكام محضة بسبب الاعتياد دون تحصيل أثرها، كما قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، رحمه الله: “ومن أعظم المحن وأطمّ الفتن في هذا الزمان، انحلال عصام التقوى عن الورى، واتّباعهم نزغات الهوى، وتشوّفهم إلى الاستمساك بحطام المُنى، وعروهم عن الثقة بالوعد والوعيد في العقبى، واعتلاقهم بالاعتياد المحض في مراسم الشريعة تُسمع وتُروى حتى كأنها عندهم أسمار تُحكى وتطوى، وهم على جرف هارِ من الردى”.

ولا يزال الطوفان يؤكد على أن هذه القضية قضية كاشفة مبينة، مُظهرة للحقائق صاقلة للمعادن، وبها يتبين الحسن من القبيح والأصيل من الدخيل، والصافي من المكدر، حتى يأتي أمر الله تعالى ويتحقق الوعد لأهل الاحسان والأصل الصافي من المكدرات، ويصدق بشأن من ظلموا أنفسهم ما صدق على من كذّب من قوم نوح (عليه السلام): ﴿فأخذهم الطوفان وهم ظالمون﴾ [العنكبوت 14]؛ ومن كان ذاك شأنه فبشره ببيع خاسر.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...