الإلحاد المسيحي الحديث والصهيونية

بواسطة | يونيو 26, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بواسطة | يونيو 26, 2024

الإلحاد المسيحي الحديث والصهيونية

خلال حرب العدوان على غزة التي نعيشها، صرح د. ريتشارد دوكينز في لقاء مصور بآراء مفاجئة، فهو اليوم يعادل نبي الإلحاد الحديث، والإلحاد يُعتبر في بعض الدراسات الأكاديمية أحد الأديان، فهو معتقد ينطوي على تصور عن قصة هذه الحياة لدى النفس والضمير؛ ولكن رغم أنه دين يعتقد العدمية المطلقة أصلاً إيمانياً لا حدود له، وأنه لا خالق ولا مخلوق، فالأصل أنه يتفاصل مع كل الأنبياء وأتباعهم أينما كانوا، وكيفما كانوا.

وهنا كان المفترق الذي برز في إعلان د. دوكينز أن إلحاده مرتبط ببعد ديني، وانتماء روحي مسيحي برره بصورة حضارية حسب مقاييسه، وهي أن هذه الروح المتمردة نحو الإلحاد، حين يقفز لديها الصراع بين المسيحية الغربية البيضاء، وبين الحضارة الإسلامية، فهي تنتمي للأولى بلا تردد، وتجد أن لديها أبعاداً حضارية متميزة عن (التخلف والعنف الإسلامي).. هذا هو سياق معنى حديث دوكينز.

 ويبدو هذا الأمر غريباً في سياق القراءة الأولى – أو الاعتقاد الخاطئ- عن رحلة التنوير الغربي، التي تزامنت مع الحملة العالمية على عالم الجنوب، واعتقاد أنها حركة حداثة منقطعة الجذور عن التاريخ المسيحي، فوفقاً لهذه الرؤية قد يصدم أتباع دوكينز أو مخالفوه أو المحايدون مع رؤية التمدد الإلحادي الجديد، كنوع من التبشير الحر في عالم القيود الدينية.

ونذكّر هنا بأن إجمال التعبير عن مرحلة التنوير الغربي ودمجه في سياق واحد ليس دقيقاً، فقد حضرت الروح والإيمان الديني في حركة التنوير، بعض ذلك ملتبس بعصبية الذات المسيحية، وبعضه كان يتلمس دلائل الروح، التي تسري في قصة الوجود البشري ولم يمكن له إنكارها، وبعضه كان متأثراً ببعض نصوص “الكتاب المقدس”، غير أن انتقال أوروبا والغرب القديم إلى زمن الحداثة وثورتها الرأسمالية، ومغادرة إمبراطوريات الكنيسة القديمة، ذلك لم ينفصل عن فكرة التفوق الديني العرقي.

 فحركة التبشير ظلت مصاحبة للزحف العسكري والسياسي، ولم تنقطع بعد الحملات (الصليبية)، رغم أن النظم السياسية التي خُلقت بعد الثورات كانت في صراع مع مفهوم الحياة الكنسية، ومشروع الشراكة بين القيصر والقسيس، غير أن روح المسيحي الغربي عبرت مع المستوطنات الاستعمارية، وجيوش الثورات الغربية الحديثة، واستمرت المذابح تفتك بالسكان الأصليين، ولم يكن الأمر مختصاً بأمريكا الشمالية والهنود الحمر، ولكن الإبادة الأوربية اعتمدت أيضاً شرعية إبادة الإنسان الآخر في عالم الجنوب.

 ففي شرق آسيا وآسيا الهندية، وفي الوطن العربي، وصولاً إلى فظائع المستعمر في أفريقيا، كان برنامجه يسير في المشروع ذاته الذي اعتمد هذا التصنيف، وأحقية العالم الغربي في الهيمنة وفي الإبادة التي تتطلبها.. لاحِظ هنا أن الاستعمار الفرنسي للجزائر والاحتلال الإيطالي لليبيا مورسا من مذهبين غربيين حديثين، الليبرالية الغربية والفاشية، لكن المحصلة لهما في كلا القطرين واحدة، ثم وسِّع النظر إلى بقية العالم لتجد النتيجة نفسها.

لقد ظلت الكنائس التي تجدها شاخصة في كل مدينة غربية، في أمريكا الشمالية وفي أوروبا، حاضرة في المشروع الكولونيالي الجديد، وملتبسة بالاستشراق كفكر، وبالزحف العسكري والسياسي. والحضور المسيحي في الذات الغربية يختلف تماماً عن تصور البعض بأن الغرب – وحتى هذه الساعة- عالم ملحد مادي منقطع عن جذوره.

وشرح هذا الأمر يطول، لكن النزعة التي ارتفعت في تولُّه دوكينز تشير لعمق هذا الصدى، وهو صدىً ليس سلبياً بالضرورة في كل حالاته، فله تموضع خاص في التاريخ الاجتماعي الديني، يُفهم عبر عرض كل صوره ومساراتها، دون أن نهوّن من دور الغرب الحديث في صناعة الحداثة المادية المطلقة، وإسقاط الأخلاق الاجتماعية، وصولا إلى عالم التفاهة، فمع ذالك كله، فإن الضمير الديني الغربي لم يُقتلع من جذوره.

غير أن مسارنا الحالي هنا هو استدعاؤه في لحظات صراع الحضارات العنيف والأقوى، ولذلك فإن عودة هذا الضمير الديني للذات الملحدة تعني في الحقيقة استدعاء هويتها الفارقة عن بقية الأمم، وهي في اللحظة ذاتها تنتفض خشيةً من حضارة الإسلام العائدة، ليس من خلال إحسان المسلمين، الذين تخلفوا عن سياق مركزهم الأخلاقي، وتلاعبت بهم نظم الاستبداد، ونقلوا الصراع الاجتماعي والمذهبي والنزاع إلى مؤسساتهم الإسلامية حتى في الغرب، ولكن في ثنائية دور الإيمان الروحي في صمود الفرد، ودور الإسلام في تحريك عجلة العمران ببعد طهراني أخلاقي، يُنصف الذات الإنسانية، ولا يقوم في أصل فلسفته على عقيدة تقدم، فميزان التقوى الذي يُميّز به المؤمن لا ينزع حق الكرامة الفردية عن غير المسلمين.

إن اضطرار ريتشارد دوكينز لمهاجمة الإسلام كدين (عنيف غير حضاري) هو أمرٌ مضحك وسخيف، وخاصة حين نستدعي اليوم قصة الغزو الموثق يقينياً، بين عالمي الجنوب والشمال، فمن قام بهذه الحملات؟ ومن حارب الآخر؟

ودعونا هنا نستحضر تياراً آخر مواجهاً لتيار دوكينز، وهو اليمين المسيحي المحافظ في أمريكا الشمالية، ومن أبرز من يمثله د. جوردان بيترسون، فيلسوف علم النفس في كندا، فبيترسون يتبنى أيضاً ذات الميزان والاستعلاء التقدمي، ويرفض بشدة اعتبار الإسلام مقابلاً حضاريّاً، فضلاً عن جدله مع الآخرين في موقفه الرافض للاعتراف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبرسالته كأحد الأديان.

 إن هجوم بيترسون على الحضارة الإسلامية، واعتبارها حضارة عنف وتخلف هو إعلان للجذر الديني لأمته المسيحية الغربية، مقابل الأمة الأخرى، فيما يعلن دوكينز التصنيف نفسه للحضارة الإسلامية، ويحتج كلاهما بتميّز الحضارة المسيحية.

ونحن نتحدث اليوم عن الألفية الثالثة، بعد رحلة تأسيس للمفاهيم الإنسانية المشتركة، ومنظمة الأمم المتحدة، والمحكمة الدولية وغيرها، ومع ذالك يعود التبرير العقائدي، وتنطلق آلة الإبادة المدعومة من الغرب السياسي، الذي أسس المنظومة الدولية العاجزة أو الشريكة في نموذج إبادة غزة، الذي ينفجر فيه الضمير الغربي المنصف، وهو يشهد كل يوم، بل كل ساعة أحياناً، وجبة ذبح وإبادة تُشوى فيها أشلاء الأطفال.

 وإعلان نتانياهو المتكرر أن الفكرة المتوحشة هي عقيدة مشتركة مع الغرب، ليردَّ على بعض الأصوات المطالبة له بضبط هذه الإبادة التي لم يوقفها السياسي الغربي أصلاً، له تاريخ موثق في موقف الحركة الصهيونية عبر تصريحات مؤسسيها، الذين برروا مبكراً لعقيدة الإبادة المشتركة مع الحداثة.

 بقي أن اذكر بحقيقة تاريخية مهمة، وهي أن أبرز قادة الحركة الصهيونية كانوا ملحدين، وكان هرتزل وغيره يسخرون من الدين، ومع ذلك استثمروا في جماعات لاهوت يهودي تقيم الهيكل المزعوم على أشلاء أطفال السكان الأصليين، وهم ذاتهم من ساعد الغرب القديم في ترويع اليهود لحملهم على الهجرة إلى فلسطين.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هل غيرت الاكتشافات الأثرية نظرتنا للحوادث التاريخية؟

هل غيرت الاكتشافات الأثرية نظرتنا للحوادث التاريخية؟

أحياناَ، قد تصادم بعض الآثار الملموسة حكايا استقرت في نفوسنا.. فبعد أن بُنيت في عقولنا قصص ومرويات من الماضي، كثيرًا ما نجد أن بعض الباحثين في مجال الآثار الملموسة والنقوش وغيرها قد اكتشفوا أدلة تناقض المرويات الشفهية أو المسندة! فهل الآثار وسيلة مشكوك بها في قراءة...

قراءة المزيد
نتنياهو فاشل ويعرّض أمن إسرائيل للخطر

نتنياهو فاشل ويعرّض أمن إسرائيل للخطر

أي خطأ في الحسابات قد يدفع إسرائيل وحزب الله إلى حرب شاملة، مع سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين. وفي حين تعهدت الولايات المتحدة بأنها تحمي ظهر إسرائيل، فإنها تصر على أنها لا تستطيع ضمان نتيجة مثالية للحرب كما تراها تل أبيب منذ يومين قدم الجنرال تشارلز براون،...

قراءة المزيد
اغتيال عمر.. دلالات الأحداث المتسارعة قبل التنفيذ في المحراب النبوي

اغتيال عمر.. دلالات الأحداث المتسارعة قبل التنفيذ في المحراب النبوي

بعد وصول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى المدينة تسارعت الأحداث، وتقاصرت الساعات التي ستشهد فيها الأمة الإسلامية وتاريخها آخر صفحات الخليفة الراشدي الثاني. محاولة افتعال إشكال شخصي جاء أبو لؤلؤة الفارسي إلى أمير المؤمنين عمر يشكو سيده المغيرة بن شعبة، لأنه يأخذ منه...

قراءة المزيد
Loading...