لا نامت أعين الجبناء

بواسطة | يونيو 21, 2024

بواسطة | يونيو 21, 2024

لا نامت أعين الجبناء

في سكرات موته بدا واهنًا بشكل لا يُصدَّق، كان قادرًا على أن يلمح الوجوه الجزعة التي جاءت لتطمئن عليه، لم يستطع جسده المحموم أن يبلغ به وضع القعود، فتحسس جسده بكلتا يديه وابتسم !

إن جسده المرهق الواهي ليس فيه موضع سليم، لا يوجد شبرٌ واحد على حاله التي خُلق عليها، فالنتوءات والتجاعيد، التي خلفتها جروح الحروب التي خاضها، تكتب تاريخًا من البسالة والإقدام لا يمكن إنكاره أبدًا.

ومن وسط ابتسامته المغتصبة خرج صوته ضعيفًا وهو ينظر للجمع الملتف حوله قائلا: أليس غريبًا أن أخوض أكثر من مائة معركة، تنْحتُ كل واحدة منها في جسمي شيئًا من ذكراها، ما بين رمية بسهم وطعنة برمح وضربة بسيف، ثم ها أنا أموت على فراشي هنا بينكم، تمامًا كما يموت البعير؟!. ثم صمت هنيهة قطعها صوت أنفاسه المتهدجة قبل أن تتحول ابتسامته المُتعبة إلى ضحكة ساخرة أتبعها قوله: لا نامت إذن أعين الجبناء!

أسلم خالد بن الوليد روحه إلى خالقها، بعدما خاض أكثر من مائة معركة – قبل إسلامه وبعده- دون أن يُهزم.. كان أنموذجًا فريدًا، ورقمًا صعبًا في القيادة العسكرية، ما دعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يعزله عن قيادة الجيش، خشية أن يُفتن الناس في الرجل الذي لا يعرف الهزيمة قط!

لكن خالدًا أبى أن يرحل دون أن يرسل لنا خلاصة حياة، يخبرنا من خلالها أن الجُبن لا يطيل حياة، كما أن الشجاعة لا تخصم من عداد الأيام شيئًا..

قليلون هم من يدركون هذا الأمر، ندرة بين البشر من يعرفون أن قيمة الحياة الحقيقية تكون بصدامك معها، بتكوين موقف تجاهها، بالهبوط إلى ميدانها وقد شمرت ساعد الجد كي تكون فيها رائدًا، مُعبّرًا عن ذاتك الحقيقية، لا ذاتك التي تم اختيارها لك، أو إجبارك عليها.

والمدهش حقا أنه بعد وفاة خالد بعقد ونيف، وقف قائد عظيم آخر يهتف في من حوله وقد أعيته قلة الناصر، وخوار المنتمين إلى معسكر الحقيقة، وتشتت الناس بين متطرف وعاجز وصاحب هوى، وقف العظيم علي بن أبي طالب ليصرخ بلوعةٍ تحمل همًّا لا يوصف قائلا: “أيا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال عقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة، والله جرَّتْ ندمًا وأعقبتْ سدمًا.. قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيْحًا، وشحنتم صدري غيظًا وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب، و لكن لا رأي لمن لا يطاع”.

وما بين سخرية خالد ولوعة علي – عليهما رضوان الله- يمكننا أن نرى جزءًا من أزمتنا الحقيقة، لا في ميدان الحرب فقط، وإنما في ميدان الحياة كذلك.. أزمة الركون إلى حديث النفس الخائفة، وتصديق وسوساتها.

كم من الأشياء كان يجب أن نفعلها يومًا ما، لكن الخوف كان سباقًا، فوضع العراقيل، وأهاج في أرواحنا نوازع الخشية والرهبة والتردد؟! وكم من موقف كان يجب أن نتخذه، وقطع الخوف السبيل إليه من خلال إطلاق نفير الجزع والرعب والارتياب؟!

إن فراش الموت كثيرًا ما يحمل لنا الإجابة، فراش الموت الذي لو نطق لأخبرنا عن الندم الذي يلاقيه الراحلون من جراء حياة قوضتها سلاسل الخوف والجبن.. فراش الموت يا صاحبي لو نطق لقال لك ما ودّ الراحلون أن يخبرونا به قبل الوداع.

أن تنظر في عين الخوف! أن تدقق النظر في وجهه الغامض، لأنك حينها فقط ستدرك الحقيقة، حقيقة أن لا عينين للخوف يبصر بهما.. ستكتشف – وما أقساها من مفارقة- أننا نتبع وهمًا أعمى يأخذنا للهاوية.

افهم هذا جيدًا.. الخوف هو العاطفة الأشدّ تدميرًا لحضورك الذهني، ويعد المجهول هو البيئة الملائمة لنموه وتمكنه منك، ولا سبيل لديك سوى تعرية الخوف وفضحه، بكشف زيفه وتسلطه الكاذب عليك..

صدقني، كل ما خشيناه طوال أعمارنا السابقة كان من نسج خيالهم.. أو خيالنا! وكم من شبح صنعناه وغذيناه، وأطلقناه في أرواحنا ليكبر ويتضخم، ويفرض سطوته علينا!

هل تعلم ما الشيء الأكثر مأساوية من خوفنا الدائم ورهبتنا المستمرة؟ هو أن يدفعنا الخوف لنكون غير ما نحن عليه.. يقوضنا، يمنعنا من النمو الطبيعي، والتعبير الطبيعي، والرقي والانطلاق الطبيعي!

ودعني أسألك: هل جربت يومًا أن تقف أمام المرآة وتنظر في عينيك، وتبتسم ابتسامة رضا؟ أؤكد لك أن معظم البشر لا يستطيعون ذلك! سيشعرون أن هذا الواقف أمامهم لا يعبر عنهم! لا يعدو أكثر من شخص صُنع بشكل يرضي الناس ويحقق أملهم هم فيه، ولا يعبر أبدًا عن صفاء نفسه، وجمال روحه، ومبادئه قبل أن تتغير ويطولها الدخن.. دخن الخوف.. والتردد.. والجبن..

قرأت يومًا قصة فتى خرج للقتال مع قومه ليصدّ جيشًا غازيًا، أعطوه يومها سيفًا قصيرًا يناسب حجمه، فهزه بيمينه ثم بكى، وخاطب أباه قائلًا: “إنهم يستصغرون شأني ويعطونني سيفًا قصيرًا!” فضربه أبوه على كتفه وقال: “امض به إلى الأمام؛ يصير طويلًا”!

نعم.. امض بثبات نحو أن تكون نفسك، لديك بلا شك قرار أو أكثر تود أن تقوم به، جرب أن تمضي إلى الأمام غير ملتفت.. ستكبر في عين نفسك يقينًا، سيكبر سيف عزيمتك، سيصير حادًّا ماضيًا صلبًا كلما ضربت به وجه الخوف.

حياة واحدة يا صاحبي ستعيشها، فهل من الصواب أن تعيشها على أطراف أصابعك؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...