في ذكرى رحيله: الوجه الآخر للقذافي !

بقلم: شريف عبدالغني

| 22 أكتوبر, 2024

بقلم: شريف عبدالغني

| 22 أكتوبر, 2024

في ذكرى رحيله: الوجه الآخر للقذافي !

– شخص مثالي، يقرأ، شديد التأدب في حديثه، وشديد البساطة في عيشه، ويكره البهرجة في اللباس، وهذا ما كنا نعتبره تواضعاً وبساطة. كان أيضاً شديد التمسك بمواقيت الصلاة، ويحض الآخرين على التزامها.

2- كانت المواصفات- فيمن يختاره لعضوية التنظيم- كلها أخلاقية أي أن يصلي، ويكون معروفاً بانضباطه، وأن لا يشرب “الكحوليات”، وأن تكون خلفيته الأسرية معقولة.

3- للأمانة.. كان صاحب المبادرة الأولى في إقامة التنظيم، وكانت لدينا اشتراكات رمزية، وكان هناك نوع من التعاون والتعاضد.. إذا تزوج ضابط كنا نجمع من رواتبنا ونساعده.

4- في النادي العسكري، عندما يحين موعد الصلاة كان ينادي الحاضرين للصلاة معه.. يضاف إلى ذلك أنه كان يعارض استخدام أي شتيمة في الحديث، أو أي نعت قاس بحق أحد الزملاء. واذا حدث شيء من ذلك كان يترك الجلسة، ويعتبر ما حدث سقطة كبيرة جداً. وكان لاحقاً يعاتب من ارتكب ما يعتبره هو خطأ كبيراً، وربما امتنع عن الكلام مع هذا الشخص يومين أو ثلاثة احتجاجاً.

5- شدد على أن تكون الحركة عسكرية بيضاء لا يراق فيها دم ليبي واحد.

هل يتوقع أحد أن هذه الصفات المثالية النقية كلها تجتمع في شخص واحد اسمه.. معمر القذافي؟!

الانطباع الأول الذي سيتشكل عند كل من يقرؤها سيدفعه للقول إنها حتما صادرة من أحد المهووسين أو المستفيدين من نفط ودنانير الزعيم الليبي، الذي حلت أمس الأول (الأحد 20 أكتوبر) ذكرى رحيله المأساوي قبل 13 عاماَ.. لكن هذا الانطباع سيزول إذا عرفنا أن هذه الشهادة بحق معمر هي شهادة غير مجروحة، لكونها صدرت عن عبد المنعم الهوني، مندوب ليبيا السابق لدى الجامعة العربية، وصرح بها بعد انشقاقه مباشرة على العقيد، وتأييده للثورة الليبية، في حوار مطول أجرته معه جريدة “الحياة” اللندنية، ونشرته في 23 فبراير 2011.

 شخصياً، لا أستغرب أن تكون كل هذه الصفات تخص “الأخ العقيد” في شبابه، وأصدقها لأن من لمسها عن قرب هو “الرائد الهوني”، الذي شارك القذافي في اللبنة الأولى لتنظيم الضباط الأحرار الذي قاد “ثورة الفاتح من سبتمبر”، قبل أن يفترقا لاحقاً لسنوات طوال، عارضه خلالها الهوني من الخارج، ثم تدخلت الوساطات لإعادته إلى النظام مندوباً لـ “الجماهيرية الليبية” في جامعة الدول العربية، إلى أن حدث الفراق الأخير اعتراضا من “الرائد” على سفك “العقيد” دماء المتظاهرين.

ونقف أمام كل هذا التحول الدراماتيكي في شخصية القذافي من التأدب في الحديث، ورفض استخدام الألفاظ القاسية، إلى الصراخ وتوجيه أقذع الشتائم لشعبه، واتهام الثوار ضده بالهلوسة والجنون وتعاطي المخدرات، ووصفهم بــ”الجرذان”، فضلاً عن توجيه سباب علني لقادة عرب في مؤتمرات رسمية.. ومن كره البهرجة في المعيشة واللباس إلى حب الظهور وصرف مليارات الدولارات في مغامرات هنا وهناك وعشق التصوير بزوايا متعددة وبملابس مختلفة بعضها مليء بالنياشين العسكرية، وكأنه محرر القدس.

كذلك الأمر في الانتقال من المواصفات الأخلاقية والانضباط  في المقربين منه إلى السمات الدموية والنفاق لإضفاء القداسة عليه، ومن التعاضد ومساعدة زملائه إلى التضييق عليهم والتنكيل بهم، بل وإعدامهم إذا عارضوا له رأياً.. وأخيرا من التشديد على أن تكون “ثورة الفاتح” بيضاء لا يراق فيها دم ليبي واحد، إلى القسم على سحق المعارضين من الشعب ومحاربتهم حتى آخر رجل وامرأة وطفل، وجعل دماء الجماهير أشبه بـ”النهر الصناعي العظيم”.

أقول إن كل هذا التحول أمر طبيعي بفعل السلطة التي تتحول مع طول البقاء فيها إلى “مفسدة”، وتصنع من المتشبث بالحكم  إنساناً آخر، وتجعل “معمر” أكبر مدمر!

السلطة المستبدة لا تُفسد الحاكم  فحسب، بل وتدفعه إلى إدمان “الكرسي”.. إنها أشبه بالقمار والمخدرات، وإلا لماذا أصرّ القذافي وغيره على امتداد الأمة، في مواجهة ثورات شعبية خلال ما عُرف بـ “الربيع العربي”، على التمسك بالسلطة بأسنانهم وأظافرهم رغم تسلطهم على رقاب شعوبهم طوال عقود، أوصلوها خلالها إلى قاع البؤس؟!

لقد توصلت الشعوب المتحضرة والعريقة في الديمقراطية إلى تحديد فترة الرئاسة بدورتين فقط، كل دورة لا تتجاوز أربع أو خمس سنوات. والسبب اختصره “مارك توين” بقوله: “السياسيون مثل الحضينة، يحتاجون إلى التبديل على الدوام”.

يُجمع أساتذة علم النفس والاجتماع على أن السلطة بالنسبة لمن يرفض التنحي تعد استمتاعاً بالمغريات، وليست مسؤولية بهدف الإنجاز. ويوضحون أن هناك عاملاً ثقافياً، يتعلق بالحكام في المنطقة العربية، حيث يستمر الحاكم في السلطة وفق ثقافة “كبير العائلة”، وبالتالي فهو فوق المساءلة، والكبير وفق هذه الثقافة يجب أن يتقدم الصفوف حاكماً وقائداً.

كما يعتبر المتخصصون أن الحاكم الذي يستمر سنوات طويلة في منصبه هو شخصية “غير سوية”، ولا يؤمن أن لكل مرحلة عمرية أولوياتها، وأن حياة الإنسان لابد أن يطولها التغيير مثل الفصول الأربعة. ويجدون أنه يتجاهل حقيقة أن الطاقة العقلية للإنسان تقل كلما تقدم به العمر.

 ويشير الخبراء إلى أن حرية القرار الفردي تتحول بمرور الزمن إلى متعة للحاكم، مصحوبة بالنفاق من حاشيته والإطراء الدائم منهم على “حكمة وحنكة رؤاه وقراراته”، فضلاً عن أنه يعتبر أن فقده السلطة يحوله إلى إنسان عادي، وهذا- بحسب اعتقاده- هو بمثابة إهانة وإذلال له.

المفارقة أن الحكام العرب الذين سقطوا خلال الربيع العربي قبل أكثر من عقد، أو الذين هم في الطريق إلى الهاوية، تعرضوا- وهم في كرسي السلطة وليس خارجها- إلى كم من المهانة والسخرية والإذلال من شعوبهم، لا يستطيع أن يتحمله إنسان حر، وكان بإمكانهم تفادي ذلك لو عادوا إلى عقولهم وعرفوا من الغرب “ثقافة الاعتذار”، وطلبوا الغفران من شعوبهم عن أية أخطاء وقعوا فيها، وتحولوا إلى أناس عاديين دون هذا الإذلال.

يُنقل عن آينشتاين قوله: “هناك شيئان بلا حدود، الكون والغباء البشري”!. ومن ينظر إلى تمسك مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح- وحالياً بشار الأسد- بالسلطة، وتشبثهم بها إلى درجة تعريض أنفسهم إلى كم هائل من الكراهية والإهانة من قبل شعوبهم، يدرك مدى صدق مقولة آينشتاين!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...