أهلية الشعوب للديمقراطية

بقلم: مهنا الحبيل

| 3 سبتمبر, 2024

بقلم: مهنا الحبيل

| 3 سبتمبر, 2024

أهلية الشعوب للديمقراطية

“أيتها الشعوب الحُرة اذكري هذا القول الجامع: يمكن اكتساب الحرية، ولكنها لا تُستردّ مطلقاً” (جان جاك روسو).

نستطيع القول إن روسو شكّل انعطافة مهمة ونوعية في علم الاجتماع السياسي؛ فتحريراته في الفصل الثامن من الباب الثاني لـ”العقد الاجتماعي”، حول أهلية الشعوب لتحمُّل أو ممارسة القوانين الصالحة، هي بحد ذاتها فرع مركزي تحتاجه البشرية اليوم، لتبيين دور هذه الأهلية في تحقيق الانتقالة إلى الحكم الرشيد، ولا نقول الانتقال الديمقراطي.

ونبني على ما قدمناه، موافقاً أو مخالفاً لروسو، أن قاعدة الحكم على الشيء هنا هي تمتع الشعوب بأقصى مساحة من العدالة المؤدية إلى خماسية الدولة الحديثة المطمئنة، والتي يتحصل عليها الشعب في النهاية: المشاركة الشعبية، وحريات التعبير السياسية، وسيادة القانون القضائي العادل، وتوزيع الثروة، والنظام القيمي الأخلاقي.

فهذه المسارات التي تتضمن مرجعية عُليا للشعب في التشريعات، ومشاركة مركزية في مراقبة الحكم، تفضي بالضرورة حين تُستكمل إلى قيام الحكم الرشيد. وأما مسمى الانتقال الديمقراطي، فهو مجموعة من السلوكيات والأنظمة والممارسات السياسية في الدولة الحديثة، تدور فيها انتخابات، وتُمثّل فيها نقابات، وقد تنتشر فيها صحافة سياسية جدلية حرة، لكنها مع كل ذلك لا تفضي بالضرورة إلى دولة الحكم الرشيد، التي يجد فيها الشعب حقوقه، ويراقب الحكم بمستوى شفافية عُليا.

وذكرنا سابقاً دور الضمير الديني في هيئة الحكم والتشريع، حين يكون ذا مصداقية حقيقية لا ادعاءً لاهوتياً مزيفاً، في دعم الروح الأخلاقية للحكم، ثم ذكرنا دور مطلق النص الإلهي ومقاصده- في نموذج الشريعة الإسلامية- للوصول إلى أعلى درجات العمران الاجتماعي، الذي تحيا به الشعوب، وتُحيي حياتها به.

هنا يطرح روسو تساؤلات، تتجاوز الحفريات الاجتماعية في طبائع النفس إلى تجارب التاريخ وتوثيقاته، وتعرضُ بوضوح سؤال القصور في الشعوب.. ومناقشة هذا القصور يختلف عن استثمار الاستبداد في الشرق بحجة نقص الوعي الشعبي، والتعامل مع تداول الحكم، وبالتالي تعطيل مشاركته الشعبية.

ولكنه قصورٌ في واقع الشعب ذاته لا في حقوقه، من خلال مستوى رسوخ المفاهيم لديه، وتمكن دورات ذوي النفوذ والفاسدين من استخدام وسائط الحرية والمشاركة الشعبية في مشاريع انقلاب ضد آمال الشعوب وحقوقها؛ ولذلك تُفهم كلمة روسو الرائعة في نصيحته للشعوب الحرة في هذا السياق، وقد أوردها في حديثه عن ضعف أهلية الشعوب. فدورة الكفاح حين تكتسب شروط الحرية هي في الحقيقة تحقق مستوى أول، ولكنه هش لا يكتمل إلا بعد اندماج وعي الشعب مع القوانين الصالحة له، والضامنة لسيادته واستقرار وطنه.

ما هي هذه القوانين وكيف تتشكل؟

 المشترك مع روسو هنا، هو أن التمسك بدورات تشريع سريعة، قبل نضج الإرادة العامة، هو ذاته قد يُفضي لسحق دورة الكفاح، وأن المزايدة باسم وعي الشعب المطلق، قبل ترصيف قوة حق تضمن بقاء صوته السياسي وهيئته في مراقبة الدولة، قد يتحول الى حصان طروادة، ينتصر فيه الفاسدون الظلمة.

ولذلك يطرح روسو نماذج الشعوب التي من بينها من تمكنت منه العادات والأوهام، ويَصعُبُ إصلاحه، فهو يحتاج الى دورات شبابية، ثم يعود مرة أخرى ليشيد بإسبارطة، وهولندا وسويسرا في أعقاب خروجهما من تجارب مُرّة مع الطغاة في زمن روسو، وتحول دورات الصراع بعد حروب أهلية إلى أدوار دولة ناجية ناجحة، وهي نماذج نقول من جديد إنها تحتاج إلى مراجعة.

 وقول روسو إن هذه الانهيارات قد لا يخرج منها الشعب، وقد تبيد بعض الشعوب، أو تتركها في مستنقع من فشل الدولة أو سيولتها، هو رأي مهم نجد نماذجه في ما بعد الربيع العربي، وفي دول أخرى من عالم الجنوب، حتى إن روسو يقول إن هذه الانهيارات ستحتاج حينها لحاكم منقذ (أياً كان)، لا سيّداً مكتمل الهيئة التشريعية والإرادة الشعبية.

مقياس روسو هنا، هو الميزان ذاته الذي عرضنا له سابقاً في موقف علماء الشريعة من خشية الفوضى العامة، والحروب التي قد تترتب عليها صراعات دموية أهلية كبرى، في حين وقف أولئك العلماء بين فسطاطين؛ المنحرف الذي ظل يزكي شرعية المستبدين ومظالمهم، والثاني الرشيد، الذي يدفع للإصلاح ومواجهة المستبد الظالم، حتى لو أدى كفاح الكلمة والموقف والنضال المدني إلى مقتله أو الإضرار به.

 العجيب أن روسو يرى أن بعض الشعوب قد يحتاج إصلاحها إلى عشرة قرون، وهذا تعسّفٌ جلي لكنه يُفهم في سياق حديثه عن طبائع الشعوب؛ فمنها من يُحسن أن يُقاد ويتفاعل في زمن توحشه، ولكنه حين يركن إلى الحياة المدنية يعجز عن مواصلة هذا التفاعل والانقياد، وهي- مرة أخرى- ملاحظات مهمة لروسو في طبائع الشعوب، غير أن ميزاننا في نقده هو طريق تعاطي السلطة الحاكمة، وملخصها في رد عمر بن عبد العزيز على قول أحد الولاة إن القمع يُصلح الرعية، فقال له عمر: كذبت، بل يصلحها العدل.

وقد لفتت نظري مقولة روسو إن بعض الشعوب لا تُطيق مجرد مس علل أمراضها، وهو أمرٌ قد يُرصد في تأملات أحوال بعض الشعوب، حين يشار إلى العصبيات القاتلة، أو إلى جاهليات متفشية في المجتمع، تفزع للموروث الظالم والمنحرف بدلاً من النظام الإصلاحي، كل ذلك من فقه الدولة والثورة التي تحتاج وعيَها نخبُ الإصلاح، في الطريق للعبور إلى الحكم الرشيد.

إن هذه الأهلية مهمة لفهم واقع الصراعات في الأقطار العربية اليوم.. وعودة المستبدين بتصويت شعبي انقلب على حق الناس في المشاركة الشعبية ونزاهة الحكم. وأصبح الفساد والقمع عقيدة راسخة للنظام، ولا يزال يتمتع بشعبية تمنع الناس من دعم الإصلاح، رغم أن فرص الحرية في التصويت- لو عادت- قد تُغيّر المعادلة، غير أن نجاح النظام العميق في سرقة القرار الأول بصوت الشعب قطع الطريق.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...