“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
بقلم: شريف عبدالغني
| 5 نوفمبر, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: شريف عبدالغني
| 5 نوفمبر, 2024
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة “انفجار جمجمة”، رسم الأديب النوبي الراحل “إدريس علي” صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية “بلال”، الذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة “إدريس” نفسه.
“بلال” باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته.. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة “التهميش”، أحب جارته الفتاة الرقيقة دون أن يملك جرأة التصريح لها بمشاعره، لكن ضابطاً سبقه وتزوجها، ولما التحق بالجندية وجد ضباطاً آخرين أرفع منه مكانة؛ لذا ترسخت لديه فكرة “التهميش” وإجهاض أحلامه في الحب والحياة.
كان يشعر بهاجس أنه مطارد من طوب الأرض!. يمكن تفهم سر هذا الهاجس إذا عرفنا أن قائده في الخلية الشيوعية، التي انضم إليها مطلع شبابه، لم يكن سوى عميل للأمن، وهو الذي أبلغ عن “بلال”، فاعتقلوه.
عاش “بلال” عمره كله وهو يحلم أن يخلده الناس بنصفه الأعلى؛ عقله وفكره وكتاباته، لكن حظه أوقعه في أناس لا تشغلهم هكذا أمور. لما تزوج ذهبت زوجته إلى أمها تطلب الطلاق، لأنه منشغل عنها بالكتابة والقراءة.. قالت إنه “ينكح” الكتب ولا يقترب منها!
حملته الأيام وحطت به من أرض إلى أرض داخل البلاد شرقاً وغرباً.. عندما أيقن أنه سيظل مطارداً في مصر ويحصل على لقمة العيش بأعجوبة، قرر الفرار. لكن، ماذا يفعل وليس معه جواز سفر؟ تذكر أيام خدمته بالجندية على الحدود الغربية مع ليبيا، وعمليات التهريب التي كانت تجري وقتها للبشر والبضائع بين البلدين.. حمل حاجياته البسيطة واتجه إلى الإسكندرية، ومنها غرباً إلى محافظة مطروح، ثم أقصى غربي المحافظة حيث مدينة السلوم الحدودية، المواجهة لأول مدينة ليبية على الجهة الأخرى “مساعد”.
تفاصيل شيقة حدثت لـ”بلال” في محاولات الهرب، أبرزها تعرفه على سيدة بدوية، آوته وغمرته بالحب الذي يفتقده.
تحتوي الرواية على تفاصيل مشهد بين “بلال” وهذه المرأة التي غيّرت مسار حياته.. يرسم الكاتب الكبير -بحق- لوحة جميلة من المشاعر الإنسانية المتدفقة بين رجل أنهكته الحياة، وامرأة انعكست قساوة البداوة عليها فأنستها أنها امرأة بحاجة إلى ونيس!. وجدت ضالتها فى “بلال”، ولمس هو فيها الحنان الذي حُرم منه. يتحدث في المشهد عن “الصحراء” التي شربت بعد عطش، والمياه التي غمرت الشقوق لتحيل اصفرارها إلى اخضرار.. ينتقل بك من جوع وجنون الاحتياج إلى الراحة والسكينة، والعزف على “الكمان” أعذبَ الألحان.
المرأة التي كانت تعرف “الدليل” الذي ينقله عبر الدروب إلى الجهة الأخرى من الحدود، خرجت تحكي وتزيد وتبالغ في وصف رجولة “بلال”!. تحدثت للنسوة في السوق عن هذا “المصري” -باعتباره قادم من العاصمة- الذي كلما قالت له “كفى”، قال لها “زيديني”.. كانت تعود على عجل إلى المنزل لأنه ينتظرها.
تغلبت على حبها، وساعدته في الوصول إلى السلك الفاصل بين الحدود المصرية الليبية؛ لكن سوء حظه المعتاد أبى أن يجعله يمر. اخترق سيخ حديدي جسده وانهمرت الدماء.. مات”بلال” وبقي معلقاً على السلك!
حضر حرس الحدود من كلا البلدين للاستفسار عن هوية صاحب الجثة المعلقة؛ رفض كل طرف استلامه لعدم وجود ما يثبت شخصيته أو جنسيته.. أبقوه على حالته للنظر في أمره!
لما عرفت البدوية بما حدث لم تتمالكها الصدمة، تحول بكاؤها على الحبيب إلى نحيب، أصابها مسّ من جنون العشق.. لم تكتف بترويج الحكايات والأساطير عن فحولته، وإنشاد الأغاني الإباحية عنه، بل أقامت له مقاما باعتباره الفحل الأول في بر مصر من السلوم إلى أسوان! هكذا خلدته الحبيبة بـ”نصفه الأسفل”، بعدما عاش يحلم بأن يـُخلد بـ”نصفه الأعلى”!!
أما حرس الحدود من ليبيا ومن مصر، فقد ظلوا على جدال ورفض لتسلم الجثة المعلقة على السلك. أخيراً توصلوا إلى حل يرضي جميع الأطراف.. “حرق الجثة” والتخلص منها!. أشعلوا النار فيها، وتجمع الناس ليهتفوا: “حريقة.. حريقة”!
هكذا انتهت الرواية، التي تذكرتها وأنا أسمع وأقرأ مؤخراً ما قاله وكتبه كثيرون -مدحاً أو ذماً- عن معمر القذافي، حيث كان اسمه “ترند” على موقع “إكس” في ذكرى رحيله الثالثة عشرة يوم 20 أكتوبر الماضي.
هناك أكثر من رابط بين الرواية و”بلال” وإدريس علي وبين “القذافي”.. ليس فقط المكان الحدودى بين مصر وليبيا، الذي جرى فيه الحدث “انفجار جمجمة”، فإن “إدريس” في الحقيقة لم يمت على سلك الحدود، بل نجح بالفعل في دخول ليبيا، وعاش في “جماهيرية العقيد” سنوات طوال، لم يفارقه خلالها سوء الحظ، وهاجس المطاردة ذاته، الذي غادر مصر هربا منه.
ترجم الأديب النوبي بعد ذلك تجربته تلك في رواية “الزعيم يحلق شعره”، التي دارت حول القذافي وأسلوبه في الحكم. لكن يد الزعيم طالته في القاهرة، فصودرت الرواية إرضاء للعقيد الذي ارتبط بعلاقات جيدة منذ العام 1990 مع الرئيس الراحل حسني مبارك.
الرابط الأبرز بين “بلال” و”الزعيم” هو طريقة تخليدهما.
القذافي عاش عقودا يرسم صورة زاهية في الخيال عن طريقة تخليده بعد رحيله بــ”نصفه الأعلى”؛ تخلى عن لقب الرئيس وفضـّـل “قائد الثورة”، لأن الثورة تعيش في النفوس، بينما الرؤساء إلى زوال. ولم يكتف بلقب “القائد”.. إنه “الكاتب”.. “المفكر”.. “الفيلسوف”.. صاحب النظرية العالمية الثالثة “الكتاب الأخضر”، وثلة من الروايات: “الفرار إلى جهنم”.. “انتحار رائد فضاء”.. “القرية القرية.. الأرض الأرض”.. و”تحيا دولة الحقراء”.
بعد مقتل القذافي، خرجت حكايات وروايات عن علاقاته الجنسية، وغرامه بالفتيات الصغيرات والفنانات!. أحدهم أصدر كتاباً زعم فيه أن العقيد أجرى اختبار “إيدز” لفنانة مصرية قبل أن يختلي بها. عاشق النساء الإيطالي “بيرلسكوني” دخل على الخط.. قال إنه تعلم حفلات الجنس الجماعي من الزعيم الليبي، الذي كان يقيمها ضمن طقوس أفريقية.
أعرف أن هذه الحكايات لا دليل مؤكداً على صحتها، وبعضها اختلاق من وحي كاتبها وراويها، وأن الرجل يكفيه مشهد النهاية البشع، وعرض جثته في ثلاجة حفظ لحوم الحيوانات أمام العامة، ودفنه في قبر غير معروف مكانه حتى الآن.. يكفيه كل هذا لطيِّ صفحته، وتركه لعدالة السماء تحاسبه.
كل الطرق كانت تؤدي إلى تخليد القذافى بـ”نصفه الأعلى”. لكن غدر الزمن ولعنة “بلال” ورواية إدريس علي المصادرة.. ذلك حول مسار تخليده إلى “نصفه الأسفل”!
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق